ها هو ذا الرجل المتمدد في زاوية المجلس العربي. إنه خالد حمدان، الناجي الوحيد من كارثة سقوط بناية الرحمة وآخر العارفين بسر الكارثة .
لا زال مضطجعًا على جانبه الأيسر يستقبل زواره بعد خروجه من المستشفى منذ يومين ببصرٍ شاخصٍ نحو مصباح النيون المنهك على السقف دون إجابة على اسئلتهم عن صحته.
يقول ممدوح عتيق جاره القديم الذي قرر استضافته في بيته حتى يعود إلى بعضٍ من صحته بأن خالد فقد صوته منذ أن أفاق من بعد الحادثة مباشرة .
-هذا هو إذًا بطل قصة الحي الجديدة.
سرت شائعات ممن يدعون حضور الكارثة بأنهم وجدوه واقفًا وسط الحطام يدور برأسه في كل الاتجاهات كالأبله غير مدركٍ لما حصل.
ويؤكد أحدهم على أنه رآه فاتحًا فمه على اتساعه يصرخ دون صوتٍ ينبش الركام بما تبقى فيه من طاقةٍ بحثًا عن بعضٍ من حياة فلا يلقى إلا السكون. وكلما قلب حجرًا أو أزاح أثاثًا غرست الحقيقة خنجرها في قلبه بإضافة إسم جارٍ جديدٍ لقائمة المغادرين ، يغيب بعدها في لطم وجهه وضرب رأسه بعامود الأساس الصامد من هول الفجيعة.
كان يقابل كل من يحاول الاقتراب من محيط المبنى لإخراجه منه بحذف بقايا الطوب وكِسر الزجاج محذرًا.
فلا زال يبحث عما يمكن أن يظل حيًا قبل أن يدرك عبثية بحثه ويبتعد عن المكان منتحبًا . يركض تارةً ويعود للترنح في تارة أخرى جارًا حبل ذكرياته السري الآخذ في تمدده مهما ابتعد.
يقول العم رضوان في إحدى المقاطع المرئية المرفوعة على الإنترنت من قبل أحد الحاضرين لتوثيق الحطام بأن الناجي الوحيد وقف مطولًا يشاهد انعكاسه على زجاج واجهة المكوجي القريب .
يشهق كلما اكتشف تغيرًا جديدًا على ملامحه ، تخضُّب وجهه بالدماء المنبعثة من الشج العميق على مقدمة رأسه . تحدُّب ظهره ، جدّع أنفه وفقدانه لثلاثة اصابع في يده اليمنى باستثناء ابهامه و إصبعه الأوسط.
ويقسم العم بأنه لازال يتذكر اهتزاز جسد خالد وضحكته المكتومة وهو يرى إصبعه الأوسط منتصبًا دونًا عن باقي إخوته. يستغفر العجوز بعدها وهو يهز رأسه قبل أن يختفي من كادر التسجيل المرئي الذي عاد لتوثيق الحطام من جديد.
لم يفقد أحدًا يصله بالدم فقد كان يعيش وحيدًا.
لكنه كان يحذر سكان العمارة من مخطط مدير بناية الرحمة علي شرف بهدم البناية من أساسها حتى يتمكن من الحصول على تعويضات التأمين لمساعدة الشيخ في سداد بعضٍ من التزاماته التي قد تلطخ سمعته ان تأخر في ادائها. ذكر لهم بأنه سمع علي يُسِّر لأحدهم هاتفيًا عن نواياه غافلًا عن إغلاق باب مكتبه الموجود عند مدخل البناية.
أنكر علي أقوال خالد بالطبع . وهدده بالطرد من البناية إن لم يعدل عن نشر إشاعاته المثيرة لسخط السكان المغلوب على أمرهم. ولم تقف الأحداث عند هذا الحد فقد صار يعاني من تجاهل جيرانه له تمامًا لدرجة الامتناع عن رد تحاياه الصباحية.
– وأين اختفى مدير البناية هذا ؟ أين هو من كل هذا الدمار؟
حضر علي للموقع بعد الكارثة بساعتين تقريبًا بحسب رواية خضر الكثيري، وقد كان اداؤه المبالغ فيه كافيًا لإثبات تصنعه للفجيعة قبل أن تجحظ عيناه ويزدرد ريقه بصعوبة لمّا وجد خالدًا يقف قبالته.
حياه بصوت متحشرج لكنه لم يرد ، فقد أرسل آخر صرخاته بحثًا عن جيرانه بأمرٍ بعدم العودة دونهم. فلم يعد صوته ولا هم .
تبقت له عينان تعرضان الكارثة على خصمه ، تمشي ببطئٍ على وجوههم تذيقه عذاباتهم الأخيرة .
مسح المدير عرقه بطرف غترته ثم شرع في بصق أعذاره
“ أقسم بالله بأنني لم أكن عارفًا بماحصل ولم أدبر هذا الدمار، تعويض ذويهم مفروغ منه. ستطير بك الآن سيارتي الخاصة إلى أكبر مستشفى لعلاجك. قدّر الله وما شاء فعل كل ما يمكننا فعله الآن هو الدعاء لهم والتأكد من عدم نسيانهم وإعادة تشييد البناية من جديد“
قهقه الناجي دون صوت
ارتج جسده بعنف قبل أن ينظر لوجه علي مطولًا وكأنه يحفظه مع باقي الوجوه تاركًا لهم فرصة الانتقام منه بألف طريقة في اليوم.
رفع بعدها بكفه الأيمن منقوص الأصابع في وجه خصمه مودعًا ثم ترنح مبتعدًا عن الحطام يجرّ حبل ذكرياته الآخذ في التمدد.