وأنه في ذلك اليوم الميمون النادر الحضور قرر عبدالرزاق الأصنج أن يمارس الإيجابية للمرة الأخيرة بعد أن صلى الإشراق رغم أنه لم يره منذ أربعة وستين يوماً انكفأ فيها على نفسه داخل داره بعد أن خلص إلى زيادة حِمله على هذا الكوكب الذي لم يعد يحتمل وجود مماثليه.
ولكي يشرع في تنفيذ ما عزم عليه توجّب عليه الخروج من عزلته الطويلةِ ليخالط الناس بهيئة متفائلة وابتسامةٍ وادعة تنبع من قلبه المغموم.
بدا منظره هزلياً وهو يغطي بكفيه العريضين على عينيه حينما لاح جسده للنور بعد إنقطاع، ضحك بعض الصبية على فعلته وهم في طريقهم إلى مدارسهم بينما اختبأ البعض الآخر خلف ذويهم في خوف.
وبعد أن تكيف على حاله الجديد توجه صوب الفوال القريب لسد جوعه بطعامٍ مختلفٍ بعد قضائه على ثلاثة أرباع تنكة التمر المركونة في داره منذ أن أُهديت له من عامر غزال ابنُ صديقه القديم بعد عودته من رحلة عملٍ للمدينة المنورة، ظل يحكي عنها أياماً في المقهى مزهواً بأهميةِ مكانتهِ لدى رب عمله.
كل شيءٍ يسير في الحي كآخر مرةٍ كان فاعلاً فيه، بوابات المحال مشرعةٌ على مصراعيها تتلهف لاستقبال ظل زائر، عمال النظافة يقترعون بعملةٍ معدنيةٍ بعد حيرتهم بين النفاياتِ داخل البرميلِ وخارجه أيهم يُبدء به وصوت أمِ حسان تغني سيرة الحب وهي تمد الألبسةَ على حبل الغسيل فوق السطح.
نصحها الشيخ عدنان بالكفِ عن الغناء غير مرة، وأرسل إليها بزوجهِ علّها تُلِين قلبها إلا أنها استمرت على عادتها دونما تغييرٍ مما اضطر الشيخ إلى تحويل خط سيره اليومي خشيةَ المرورِ ببنايتها مجدداً.
كانت عجوزاً عنيدةً جداً لا تجد غضاضةً في رد طالبيها بإجابةٍ واحدةٍ مهددين كانوا أو متوددين
“أي دينٍ هذا الذي يحرككم لإسكاتِ عجوزٍ تبحث عن صدى صوتها ويصرفكم عن مساعدتها إن هي احتاجت معيناً”
أخطأ الأصنج الزقاق الصحيح المنتهي بجرة الفول الكبيرةِ فبرر لنفسه خلطه بين الأزقةِ بإطالة المشوارِ رغبةً في تحريك عضلاته الراقدةِ منذ هلالين وبضعة أيام. وكأنه نسي المشي تحرك بخطواتٍ متمهلةٍ على غير عادة أهل الحي في زوق التشتش. فلن تسلبه الرهبة استمتاعه بانعكاس الألوانِ على عينيه.
و لأنه يعرف قاطني هذا الزقاق جيداً و اختبر سعة قلوبهم ونصاعتها من قبل فلم يكن عليه أن يسير قلقاً، بل وأنه رفض عرضاً سخياً من آدم بإيصاله لوجهته على ظهر العجيب وانتهى به زوق التشتش إلى السوق فأُبدلت الأبواب الحديديةُ الصدئة بواجهات الدكاكين الزجاجية المتباينة على حسب ملاءة ملاكها.
ناداه صوتٌ رخيمٌ قادمٌ من خلفه وقبل أن يكمل استدارته وجد نفسه مغموراً بجسد العم موسى المكتنز الذي أمطره بالقبلات.
دعاه بعدها لمشاركته الإفطار على ناصية دكانه الصغير، ولأن تاريخ المنطقة لم يسجل أي رفضٍ لإلحاح العم على دعوات الموائد وجد نفسه منصاعاً لرغبته متربعاً أمام سفرته متنوعة الأصناف.
طلت مبادرة البقال قلبه بالسعادةِ على الرغم من انتفائها على قسمات وجهه وكأن ملامحه غدت واهنةً عن تعابير الفرح، وانشغل بمبارزة الأطباق عن الرد على فضول العم موسى واكتفى بإجاباتٍ مقتضبةٍ متجاهلاً نظراته الفاحصة لهيئته المتغيرة.
شتت ضجيجٌ انبعث من الدكان انتباههم ففز له العم برشاقةٍ تخالف بنيته ودلف للداخل. اختلط صياحه بالضجيج الذي اختفى بعد صوت ارتطامٍ مدوٍ أجفل قلب الأصنج ، خرج بعدها البدين مقهقهاً وبين يديه لوحٌ انبعج منتصفه من ثقل جرذٍ مهشمِ الرأس التصق به على حين غرة لملاقاة حتفه.
“الخبيث قرر التضحية بيده وراح يقرضها للتخلص من محنته. ربك ستر”
رمى باللوح في البرميل القريب وعاد لإكمال حديثه منتشياً
“لحق الخبيث بأمه . يالله لم يتبقى إلا القليل من سلالته التي عاثت في دكاني فساداً ، فلم أعد أجد شيئاً إلا وطالوه بأضراسهم النتنة حتى صارت مصائد الفئران أكثر من البضاعة”
هل شاهدت جرذًا يقضم لحمًا بشريًا من قبل؟ حصلت هنا ورب الكعبة -أشار لمدخل دكانه- عض أحد صغارهم مرةً طفلةً في يدها بعد أن كان مختبئاً بين مغلفات الحلوى، لتهرب باكيةً وتعود بعدها رفقة والدها.
كان رأسه يفور غضبًا ولم يقبل بكم أعذار البقال العجوز -يضحك- صار يهددني بإغلاق المحل من هول فجيعته.
لكن ربك رحيم بي جاء الشيخ عدنان وتولى بدوره أمر تطييب خاطر الرجل، حديث نبوي تسنده آية قرآنية فدعاء مطول بالبركة حتى رضي المفجوع. اقترح علي الشيخ بعدها تحمل تكاليف علاج الصغيرة، وهكذا فعلت”
ركز نظره على الأرض طويلاً ثم واصل بحسرة ” بدأت أفكر جدياً في مغادرة المكان و الانتقال لغيره. من يدري؟ ربما أعتزل الغرام وأغلق الدكان إلى الأبد . هه قضيت نصف عمري في هذا المكان مقاوماً كل الإغراءات لتركه والآن أُجبر على مغادرته بأمر قبيلة جرذان”
“وحد ربك ياشيخ ، سيبدلك الله خيرًا” رد الأصنج مواسيًا
هز رأسه موافقاً ” ما يعزز فكرة اغلاق الدكان هو هجرة أهل الحي لخارجه. صار الناس غير الناس -لازال يهز رأسه- ثم إن وفاة عامر غزال قطعت أرجل الناس عن العتبة”
“عامر!! من مات؟؟” صرخ الأصنج في فزع.
“عامرغزال غشيته رحمات الله .حسبت أنك تعلم مات هنا” وأشار بسبابته إلى مكان سقوط الجثة.
صُعق الأصنج بما سمعه وأحس بحرارة عينيه الغارقتين بالدموع..
“وكيف مات؟” شعر بها ثقيلةً تخرج من فمه.
“سقط المسكين من شباك غرفته. ارتطم بالإسفلت وتناثر دماغه عليه ومات من فوره . يا حبيبي يا عامر اعتبره أغلب السكان منتحراً ورفضوا الصلاة عليه .
ولأنهم لم يكبدوا أنفسهم عناء التعزية، لم يقم صوان عزائه إلا يوماً واحداً. تخيل! يومٌ واحد فقط.
اعتبر الملاعين هذه البقعة ملعونةً فاقتصر مرورهم عليها للضرورة القصوى ،وما عدا ذلك فشوارع الحي كثيرة.
هل تصدق أن مها بنت حاسن تكفلت بجزء من تكاليف المراسم ؟ ثم يجرؤون على اتهامها بسوء السمعة؟ أبناء الكلب.
“مها؟”
هز البدين رأسه وأردف متنهدًا “آآه رحمك الله يا حبيب عمك ”
رفع بعدها كفيه إلى السماء داعيًا ودمعة ثقيلة تتدحرج على خده
ساد الصمت لبرهةٍ من الزمن أفصح الأصنج بعدها عن قراره بإقامة مراسمِ عزاء يليق بابن غزال.
حاول موسى ثنيه متعللاً بمضي شهرٍ على الوفاة
فرد حازماً “يبدأ عزاء ابن الغالي غداً”
قام بعدها من مكانه.