لم يكن خليل مباليًا بضحكات من مر بهم أو بالدهشة التي اعتلت وجوه بعضهم وهو في طريقه لتأدية مهمته شديدة الحساسية.
فبعد مضي أسبوعين على تمدده وسط المعلبات الفارغة وقناني البيرة في جحره الآمن تحت سريره (الكينغ سايز) والذي لا يفارق حيزه المعتم في ساعات خوفه التي أكلت جُل عمره إلا إذا شعر بحاجة ملحّةٍ للتبول.
يراجع وقتها جدية حاجته لفترة من الزمن تنتهي باتساع الرقعة الصفراء على مقدمة ردائه بمكر.
وبعد أن قضى المكروب على آخر معلبات الطعام التي كان يكدسها وتعفُن ما تبقى من مؤنٍ نتيجة مقاطعته لاختراع الثلاجة عقب موت زوجة بالتماسٍ كهربائيٍ وهي تعيد توصيل الثلاجة التي أطفأها خشية تعاظم الفاتورة،
قرر الخروج في مهمة انتحارية لإعادة التموين بقالة الحي القريبة من منزله بعد يومين كاملين من التفكير الحثيث عن وجوب خروجه من عدمه وسط غفوات تعبٍ مخاتلة وصياح معدةٍ ملّت من اجترار عصارتها.
ارتدى بنطاله الجلدي الذي خصصه للمهام المستحيلة. ثم أعقبه بحذاءٍ مطاطي شديد المتانة ينتهي حده عند ركبتيه العريضتين. زرر بعدها القميص الرابع فوق اخوته مضفيًا على عوده النحيل شيئًا من ملامح جسدٍ بشري.
ثم أكمل مهمة حماية جسمه الهزيل بارتداء غطاء ثيابٍ بلاستيكي يفوقه طولًا كان قد اختزنه في دولابه بعد آخر زيارةٍ للمغسلة.
أما عن احترازات رأسه الأقرع، فلم يبخل على قلقه بتغطية فمه بطبقاتٍ من الكمامات الطبيةِ على قدر احتمال أذنيه البارزتين، وأحكم تغطية قرعته بقماشةٍ خضراء بعد لف الزائد منها فوق الكمامات.
وحمى عينيه بنظارة غوصٍ جاوز اطارها حدود وجهه بطنّها بأكياس نايلون شفافة.
ثم اعتمر كيسًا ورقيًا لمطعمٍ صيني بعد أن أحدث فيه ثقبين يكشفان عن عينيه الوجلتين المختبئتين خلف الأستار الشفافة.
أزاح بعدها طبقات القفازات التي تخنق كفه ليصل للساعة ويضبط الوقت. عشرة دقائق كحدٍ أقصى يبتاع فيها حاجته ثم يعود لمخبئه الرطب على وجه السرعة.
هكذا عاش خليل طوال عمره حاملًا قبره في رأسه مرتديًا خوفه حتى صعب فكاكه من جسده الذي انهكته الهواجس.
فمازال يحرص على دس قدمه العظمية تحت اللحاف ساعة النوم خوفًا من شبحٍ يتربص نزوحها لاختطافها وتقديمها لغولٍ كثيف الشعر بعين واحدةٍ واسنان من حديدٍ صدئٍ يرسل جواسيسه اللامرئية كل يوم طلبًا لأقدام الغافلين لإطفاء ولعه بحساء الأقدام البشرية مع ذيل الماعز الأسود المنقوع في طمثٍ معتق.
ولم يقدر يومًا على النوم في العتمة منذ أن كان في الخامسة من عمره.
ورغم تفوقه العملي إلا أنه رفض مرارًا عروض ترقيته لمنصب أعلى خشية اتخاذ قرار يكلفه وظيفته. واستطاب له البقاء منسيًا وسط ملفات الموظفين في الأرشيف.
كان منظره وهو يحاول اسراع الخطى تحت أسماله متباينة الشكل والألوان مثيرًا للدهشة والشماتة.
حتى أنه غالب الوقوع لأكثر من مرة على رأسه المختفي تحت قناع الورق ذي الزوايا الدبقةِ من زيت كان فيه بالأمس.
ولما وصل إلى الدكان صعُب عليه تفادي نظرات الاستغراب ووشوشات الشماتة على مظهر رائد فضاء في فيلم بوليودي معدوم الميزانية، لكنه قرر التجاهل على قدر استطاعته راجيًا انتهاء مهمته.
وبعد أن كدس المعلبات والأجبان التي ستتعفن قبل موعدها في سلته، وقف مقابل البائع تاركًا بينه وبين منضدته مسيرة يومين من الهلع وبقي ينتظر دوره.
حتى إذا جاء اقترب من المنضدة راجفًا وسط ضحكات البائع العجوز
” خيرًا ان شاء الله يا خليل! أدُعيت لحفلة تنكرية؟ خذني معك فأنا شقيٌ قديم” قالها وهو يمد يده المعروقة المنتهية بمعلب الفاصوليا البيضاء منتظرًا فراغ المشتري المشغول بتعقيم ما سبقه من معلبات.
“آهاا فهمت الآن.. هذا ردائك الذي ستتخفى تحته وأنت تحارب الشيوعية الصينية؟ ” قالها ضاحكًا وهو يطالع كلمة (الصين) المقلوبة بين عينيه.
“ارتديه وقاية من الفايروس” خرج صوته مكتومًا من تحت طبقات الحماية المبتلةِ بعرق الخوف فاستحال فهمه على البائع العجوز الذي رد متهكمًا.
” الصينيين والروس دفعة واحدة؟ والله إنك مجرم سفاح “
ولما أراد خليل دفع الحساب تذكر أن محفظته مدفونةٌ تحت دروعه الهشة فازداد اضطرابه وركض حتى وصل وراء الأرفف وهو يوزع بصره في أرجاء الدكان بوجل.
رفع بعدها طبقات البلاستيك والقماش حتى وصل لجيب البنطال الجلدي وانتزع منه محفظته ثم عاد لمواجهة العجوز مجددًا بعد أن أعاد دروعه لموضعها.
” صحيح يا ولدي أن من خاف سلم، لكني أخشى عليك من أن تقتل نفسك بخوفك هذا، توكل على الله ولن يصيبك لا فيروس ولا حتى أم كلثوم” ثم مد يده المهتزة من فرط ضحكه ليرفد مشتريه بما تبقى له من مال.
ولما وصلت يد خليلٍ لنقوده بوغت العجوز بعطاسه فتناثر رذاذه على يد المرتاع الذي شهق في فزعٍ وركض حاملًا مؤنه مختفيًا عن الدكان في لمح البصر تاركًا بقية ماله.
ولا يدري كيف وصل لمنزله بعد أن أعتمت دموعه المختنقة بالنايلون رؤيته فاستعان بحدسه لمواصلة طريقه.
غطّس مشترياته في حوضٍ ديتول شديد التركيز.
خلع دروعه الواهنة ثم القى بجسده تحت الماء للمرة الأولى منذ أسبوعين من العطن، وراح يشتم العجوز المستهتر متمنيًا أن يصيبه الفايروس هو وأصحاب ضحكات الشماتة الذين صادفهم في طريقه.
عاد بعدها للتمدد في مخبأة الرطب صحبة معلباته الجديدةِ منقوصة من بيرة الشعير التي نسيها من فرط توتره قبل أن يغيب في كوابيس تنتهي بموته. خشي أن ينساه الناس سريعًا.
تخيل بعدها بقاءه وحيدًا على البسيطة بعد أن يقضي الفايروس على بقية الجنس البشري عن بكرة أبيه. سيضطر وقتها للخروج من مخبأه بحثا عن طعامٍ أو ربما عن صديقٍ مما تبقى من كائنات يسلي وحدته.
ثم أنه لم ينم بعدها ليومين متتالين بعد أن تذكر ضريبة بقاءه وحيدًا، حيث انه سيصبح الهدف الأوحد للغول كثيف الشعر المدمن على حساء الأقدام البشرية مع ذيل الماعز الأسود المنقوع بطمثٍ معتق.
وبعد أسبوعين من الهلع، قرأ في صفحة أخبار الحي نبأ وفاة أحد كبار السن متأثرًا بالفايروس.
ولما قرب الصورة الموضوعة في الخبر تبين هوية البقال العجوز فلكم هيكل السرير الخشبي بقبضته مغتبطًا باستجابة دعائه قبل أن يغيب في نشيجٍ حارقٍ بعد استرجاعه لذكرى عطاسه الموبوء.
قرر لحظتها بأنه يعيش أيامه الأخيرة. وأنه إن صدقت حساباته فلن يعيش لما بعد مساء يوم الخميس أو ربما قبيل فجر السبت على أبعد تقديرٍ لو كان ربه به رحيمًا.
وشرع يكتب وصيته التي تخوّل لأول شخصٍ يكتشف جثته على حيازة أملاكه التي لا تتجاوز أثاث بيته القديم وما بقي من معلبات. أما عن دينه المعلق في رقبة البقال النافق، فقد سامح ورثته فيه مبتغيًا وجه الله.
وللمرة الأولى منذ سنوات، استطاع أن ينام فوق سريره لأربعة أيام متواصلة دون شعوره بالحاجة للاختباء تحته.
وترك لقدمه العظمية حرية التمرد على اللحاف بل وأنه استعذب نسمات الهواء الباردة التي تخلل أصابعه بعد أن صاحب خيال الشبح الجاسوس ولم يعد يرى لخشيته مبررًا.
غزته سعادةٌ لم يعرف طعمها منذ فقد زوجته شهيدة الالتماس الكهربائي وهو يستذكر اللحظات الخالدة التي جمعت بينهما.
وتكريمًا لذكراها أعاد للثلاجة المركونة في مطبخه وظيفتها العظيمة وصار يتلذذ بأجبانه دون خوفٍ من العطن.
مر مساء الخميس عليه بسلام وعاش ليصلي فجر السبت دون أن يموت.
لكن خوفه مات.
مات إلى الأبد.
حبيتها 👏🏽