لم يكن ملجأ فرج من بعدما حصل اختياريًا أو جاء بعد تخطيطٍ لوذعيٍ محكم.
فبعد جلبة سقوط الغول منقوصًا من عينه اليمنى وانشغال غربانه المذعورين بإيجاد طريقةٍ لحمل جثته الهائلة، ونشوة عباس بصنيع رفيقه وهو يرقص ملوحًا بآلة الجريمةِ في الهواء محاكيًا رقص المزمار بألحان تحتبس في رأسه.
ووسط اندلاع جذوة المقاومة في صدور الباعة المغلوب على أمرهم لم يجد المنبوذ فرصةً أفضل من هذه للفرار بجلده وما تبقى من سمعته التي احترقت أمام الفريقين للتو دفعًا لعاقبة خائنٍ مثله حتى ولو على سبيل التأجيل.
وبعد أن توارى عن أنظار الغربان المتعطشين لانتقامٍ وأفلح في مناورة الأعين التي مر عليها، وجد نفسه واقفًا أمام الباب الذي يخبئ أمنيته البعيدة خلفه بعد أن تسلل لعمارة الرشاد من مدخلها الجانبي وصعد سلالمها الرخامية بذعرِ جرذٍ خرج من مستنقع راحته.
والله وحده يعلم كم قضى المنبوذ من الوقتِ مترددًا قبل أن يجس اصبعه الراجف على الجرس الذي صاح مطولًا منبهًا على قلقِ الضيف الواقف خلفه.
ولما فُتِح الباب ورأت سيدة المنزل زائرها شهقت في ذهول وقبل أن تصرخ باسمه أطبق المنبوذ على فكيها بأصابعه المتعرقةِ واقتحم المنزل مسرعًا. حتى إذا أغلق الباب جثا على ركبتيه وحرر أزراره العلوية ليوسع مدى استنشاقه للهواء وهو يلقي نظراته المتوسلةِ على صاحبة البيت.
قال بعد انتظام دقات قلبه ” وفاء.. أنا آسف. آسف جدًا على حضوري بهذا الشكل، لكني لم أفكر في أحدٍ غيركِ ليخرجني مما أنا فيه ”
” مصيبة جديدة؟” استفسرت
أومأ برأسه إيجابًا فضربت صاحبة المنزل كفًا بكفٍ وهي تزفر ما علق في فمها من توتر.
“أنا غبي.. أعلم ذلك جيدًا وأعرف أن توريطكِ في هذا الأمر سيجلب لكِ المصائب إن علم زوجك بالأمر“
“طليقي!” قاطعته بنبرة حادة
” طليقك زوجك لا يهم! المهم أن تساعديني “
صمتت للحظات وطالعت لوحة طبق الفواكه الأثرية المعلقة على الجدار المقابل تطلبها المشورة. ثم تساءلت ” وهو مشترك في مصيبتك؟”
“ بشكلٍ أو بآخر”
” البيت بيتك، أهلاً وسهلًا بك” قالتها باسمةً ثم دلفت للداخل لتجهيز مهجعه.
لا يدري فرجٌ كيف طرأت فكرة أن يلوذ بمحبوبته القديمةِ على باله. وفاء التي كانت أساس أحلامه المستقبلية.
بيتٌ واسع المساحةِ يكفي جيش أبنائهم وأسطول سياراتٍ فارهةٍ بسائقين متأهبين على مدار الساعةِ لتلبيةِ رغبات سيدةِ البيت إن كانت قد عادت لمنزلها للراحةِ بعد سفرةٍ طويلةِ المدة قضتها في الشاليه حديث الطراز المطل على البحر الأبيض المتوسط تاركةً فيه فرج المشغول بإغلاقِ صفقةٍ تجاريةٍ كبيرةٍ في أوروبا. وهو بدوره سمح لها بالرجوع للمدينة رغمًا عن رغبته في بقائها لمراقبةِ المستوى الدراسي لأبنائهم المدللين ولافتتاح متجرها الخامس في المدينة.
خُيل له أنه يعيش على أعتاب الجنةِ التي لن يدخلها إلا بعد احترافه لكرة القدم، الحرفة الوحيدة التي أجادها حتى صار أسطورة الملاعب الترابية التي يحلم بترك عفرتها وأجر دوراتها الرمضانية الضئيل والانتقال لمستوىً أرفع يريح والده من روتين توصيل الطالباتِ منذ خمسة وعشرين عامًا وينهي معاناة أمه من مخاتلات إبر الخياطة.
وبادلته هي بدورها مشاعر المراهقةِ ورسائل السلالم ظهيرة كل يومٍ وهي عائدةٌ من مدرستها. ونفذ صبرها آلاف المراتِ وهي تنتظر صافرة الغرام المشفرةِ لتفتح شباك الصالة وتطالع محبوبها الأسمر وهو يتصنع حواراتٍ تلو الحوارات مع المارة على قدر استطاعته لحفظ ما تيسر له من صورة محبوبته الملائكية. ولم تكن هي لتحلم برجلٍ غيره تحتمي بظله بقية عمرها.
ثم استحال حلمه كابوسًا.
قضت سيقان حمودة الونش الحديديةُ على مسيرته الرياضيةِ بعد أن استخف فرجينهو بقدراته الدفاعيةِ بمراوغةٍ مهينةٍ هيجت الصرخات الشامتة لمتجمهري النو كامب. فانتقم منه الونش بتدخلٍ عنجهيٍ ألغى مسيرته الاحترافية لما تبقى من عمره وأبدل ركضة الغزال التي كان يختال بها إلى عرجٍ يثير الشفقة.
حاولت أمه أن تخرجه من حزنه باقتراح خطبة محبوبته له على أن تبدأ احتفالات زفافهما حينما يتمكن من جمع ما يكفي من المال. وضمنت له موافقة والده على هذه الزيجة.
ولكن شيئًا لم يتم.
رفض عم وفاءٍ تزويجها لفرَجٍ بحجة طبيعةِ عمل والديه، هذا أولًا. وثانيًا لم يحصل أن زوجت عائلتهم أصيلة النسب رجلًا داكن البشرةِ من بناتها قبلًا ولن يكون فرجٌ استثناءًا لهذا التقليدِ فهو لا يملك أي شيءٍ يمكنهم من إعادة التفكير في قرارهم المحسوم منذ الأزل.
جن جنون المنحوسِ وترك بيته لعدة أسابيع يلملم فيها بعضًا مما تبقى من كبريائه. ثم حلف بالله أنه لن يكون رجلًا إذا لم يُصب عمها بالحسرةِ بعد سنواتٍ حينما يملك من المال ما يكفي ليرمي من أوصد باب جنته المشتهاة في قاعة الانتظارِ لساعاتٍ أو ربما لأيام قبل أن يستضيفه في مكتبه الواسع الفاره ويستمع إليه في مللٍ وهو يقدم له يد وفاءٍ كعربون محبة. وقتها سيرفض المحبوب عرضه الفائت لأوانه ويطلب من معاون معاونه بأن يطرده من صرحه العملاق ككلبٍ مجذوم.
وبعد أن رفض فكرة خلافةِ والده خلف مقود الميني باص، راح يدفع حظه العاثر في كل مكانٍ حتى صار سمسارًا لرغبات الفتوات وملبيًا لكل نزواتهم إلى أن صار مقربًا من معظمهم، يعني أنه صار مقربًا من ثلاثةٍ منهم مهيوب، نعيم وعبد الستار. وواحدٌ لا يستطيب حضور فرجٍ إلا إن احتاج بعضًا من خدماته واسمه مالك.
وأما خامسهم عيديد فلم يكن مهتمًا لعروض السمسار أبدًا ونأى بنفسه عنه واكتفى بالرد على ملاطفات فرج الدائمةِ بابتسامةٍ لا تكاد تكتمل.
وبعد عامين من تحمل سلاطة ألسنة الفتواتِ وطلباتهم الشاذة الغريبة تمكن فرَجٌ من جمع أول ربع مليونٍ في حياته، بل وتمكن من مضاعفتها في وقتٍ وجيزٍ بعد أن جازف بها في مشروعٍ عال المخاطرة.
وبعد أن خمدت ثورة أفكاره القديمة قرر محاولة خطبة محبوبة العمر من جديد، إلا أنه اصطدم في هذه المرة بخبر زواجها من السيد الذي يبدل زوجاته مع رأس كل سنةٍ بحثًا عن طفلٍ يحمل اسمه، ماله وسطوته. ولا يمكث مع نسائه المستجدات لأكثر من عامٍ يرفع بعدها راية الانسحاب من الأرض البوار وقد أغدق صاحبتها بالمال لدفن سر عجزه.
وقد كان المنبوذ على علمٍ بطلاق محبوبته من السيد. ويتذكر تمامًا الراحة التي سرت في جسده وضحكه المتواصل في ذلك اليوم، غير أنه تصنع صدمته بالخبر قبل قليل.
” أنا سعيدة برؤيتك يا فرج ” قالت سيدة المنزل وهي تعيد ما تنافر من خصلاتِ شعرها الفاحم لعقيصتها.
لا يزال المنبوذ مفتونًا بملامحها بل وشعر بأنها صارت أجمل مما كانت عليه رغم بساطة مظهرها الحالي.
وبعد أن حكى لها فرج عن التفاصيل التي ألجأته للاختباء عندها. وحكى لها عن غياب وضاح. وعن علمه الفوري بسقوط رفيقه تحت أقدام الغول وغربانه وأنهم تركوا جسده المضرج بدمائه على قارعة الطريق، وأنه إن تأخر عن نجدته فسيكون جسده عرضةً لنبش كلاب الشوارع الجائعة. وأنه لما جاء راكضا لشارع المواد الغذائية لم يجد جسد صاحبه كما وصِف له بل وجد مكانه العم جلال غائبًا عن الوعي.
فحمل العم جلال بعدها وقام بتطبيبه ثم عرف منه تفاصيل مواجهته مع وضاح. وأن العجوز فعل ما فعل لينجي وضاح من سطوة الغول وأنه يعرف أن نية وضاحٍ ناصعة البياض تمامًا كوالده.
لكنه لا يعرف أين اختفى وضاح. وأنه بحث عن رفيقه في كل مكانٍ وسأل عنه كل الفتواتِ والغربانِ ولم يخرج بأي نتيجة. ثم أنه حاول إيقاف مواجهة الفريقين على قدر استطاعته لمعرفته المسبقة بالنتائج. ورغم دهشته من تصرف العم عبد الرزاق الخارج عن المنطق إلا أنه لا يستطيع إخفاء اعجابه الشديد بصنيع والد رفيقه. لكنه خائف من تبعات فقأ عين الغول.
” أحمق. لم يكن مهيوب إلا أحمقًا. دائما ما كان يثير متاعب السيد. لكنه لا يستطيع الاستغناء عنه كونه أحد أكثر أذرعه قذارةً وقسوة. وبصراحة نال الغول الأحمق بعضًا من جزائه ” قالت وفاء بعد استماعها لقصة فرج.
“أخشى أن يفقد مهيوب ما تبقى من عقله الخفيف أساسًا ويحاول رد اعتباره بغشامة ” برطم المجذوم بقلق
” ما فعله العم عبد الرزاق شيء جميل، يبعث على الفخر ويذّكي شجاعة بقية السكان. لكنه صعّد بمسألته إلى من يفوق مهيوب مرتبة “
“ساجد!” اتسعت حدقتاه وهو ينطق اسمه.
أومأت برأسها موافقة ثم أكملت” أنت تعرف قسوة قلبه تمامًا وتعرف أنه يجوز له فلق رؤوس الناس لقتل ملله. ولك حرية تخيل ما يمكن حدوثه بعد حادثة العكاز التي ستغير ملامح الحي كثيرًا“
أضافت بعد رشفة شاي “والمحير في الأمر هو عدم اعتياد الفتوات على رد الفعل من قبل، على الأقل لفترة طويلة. لذلك لا يمكن التنبؤ أبدًا بما قد يحصل ولا أحد يعرف مصير العم عبد الرزاق بعد اليوم“
“سنمر بأيامٍ شديدة الظلمة” قالها فرج وهو يطالع قدميه المعفرتين بتراب الهروب.
“أرى بأنكِ اكتسبتِ القدرة على تحليل الأمور والتنبؤ بالمستقبل” أضاف ضاحكًا بعد صمت.
” هذا هو الشيء الوحيد الذي خرجت به من بعد تجربتي مع السيد. غير المال والمنزل طبعًا” ردت ضاحكة
طلب بعدها استخدام الهاتف ليتصل بجارتهم ليوصيها على مراعاة والدته وتلبية طلباتها لأنه اضطر للسفر فجأة ووعدها بأن يأتيها بهديةٍ كبيرةٍ حينما يعود.
ظل المارق مختبئًا في منزل محبوبته القديمةِ لما يزيد عن أسبوعين. ولم يفكر فيها بمصيره كثيرًا بعد أن شعر بأنه تسلل لجنته المحرمة قافزًا من سورها بعدما أوصِد بابها في وجهه.
وهام بافتتانه في وفاء التي اشتعلت فيها جذوة الحب القديم من جديد كما كانت مشتعلة في محبوبها بل وسمحوا لها بأن تحرق أجسادهم مجتمعين عدة مراتٍ دون تفكيرٍ بالعواقب.
تكاثفت اتصالات جارتهم في الأيام الأخيرة من اختبائه ترجوه فيها أن يعود لتسليم نفسه بعد أن كشفت سر اختباءه. ونقلت له تهديد الغربان بشكلٍ صريح ” إن لم يعد هذا الخسيس فسنستبدله بأمه”
جن جنونه وراح ينزع عنه روب السيد الذي سمح لنفسه باستخدامه مع بقية ملابسه طيلة بقائه في منزله. قبل أن يقرر تسليم نفسه.
وحاولت وفاءٌ إيقافه بكل الطرق وأنه سيُلقي بنفسه للتهلكة وما تهديدات الفتوات إلا كلامٌ فارغ وهو نفسه يعلم بأنه لو كانت نيتهم حبس والدته المسكينة لفعلوا ذلك وتركوه يموت بحسرته وجعلوه يهيم في شوارع الحي دون عقلٍ كعبرةٍ رادعةٍ لغيره.
ولما استنفذت جميع محاولاتها رمت بسلاحها الأخير الذي أخفته عنه طيلة اليومين الماضيين ” أنا حبلى يا فرج”
صمت ذاهلًا واتسعت أحداقه حتى فاضت عن جفونه.
لم يعرف ماهية شعوره المختلط بفرحٍ عظيمٍ وذنبٍ أعظم.
“فلنكفر عما اقترفناه ولنتزوج يا فرج” قالت وفاء.
“نتزوج!”
“ألم تحلم بهذا طيلة عمرك؟ كلها أيام قليلةٌ وأتحرر من عدة البغل. نأخذ أمك من بعدها ونختفي” كانت قد قررت عنه بالفعل.
أومأ موافقًا شريطة أن يزور أمه. وبعد محاولاتٍ لثنيه عن رأيه وافقت محبوبته على مضضٍ بعد أن أقسم بكل الأيمان التي يحفظها بأنه سيزورها نائمةً ليطمئن قلبه المخطوف ثم يعود متعجلًا.
وقد كان.
وكما تسلل لعمارة الرشاد أفلح في التسلل لبنايتهم. قابل جارتهم عند الباب فلثم رأسها ممتنًا لصبرها. ودخل لمنزله في سكون، حتى إذا وصل لوالدته وجدها نائمة فقبل جبينها الطاهر وهو يمسح دموعه.
تمنى لو أنه يستطيع اخبارها بأنه سيصير أبًا عما قريب. وأنها ستصبح أعظم جدةٍ في العالم.
أغلق بعدها باب غرفتها وتوجه للصالة بنية الجلوس. ثم انتفض جسده قبل أن تلامس عجيزته قماش الأريكة القديمة جراء سماع دبيب أقدام آخذٍ بالازدياد.
تبسم لما عرف مصيره وهرع ناحية الباب.
فتح الباب ثم أغلقه في سكونٍ ووقف أمامه منتظرًا حتى إذا وصل الغربان ترك جسده تحت رحمة صفعاتهم، ركلهم وشتائمهم دون أن تفارقه ابتسامته.
لمح من فرجة الباب المقابل وجه جارتهم محزونًا وغير قادرٍ على احتمال ما يراه وراحت تذرف دموعًا ساخنة.
” سامحني يا فرج، هددني الملاعين بأطفالي” صرخت بأعلى صوتها وهم يقتادونه على السلالم.
أومأ لها المنبوذ شاكرًا بابتسامةٍ تصطبغ بدمه
“أمي أمانة عندك” صاح
ثم غاب وجهه عنها للأبد.
لا عالم ماذا أقول ومن أين ابتدأ عن مواطن جمال في القصة أو التعابير القوية أو عن قوة التخيل ابدعت جد جد مبدع
شكرا جزيلا على مرورك
متى التكملة استنينا كثير 😩
قريبا ان شاء الله