ولأن حظه تعيسٌ جداً ، انتهت كل أحلامه بموته.
إستيقظ من نومه فزعاً بعد مطاردةِ غولٍ عملاقٍ بشعٍ خُيِل له من هولها أنها دامت أضعاف عمره، مات هذه المرة بعد أن التقطته قدم الغول الشبيهةُ بمخالب الطيورِ من خلف بقايا سورٍ لاذ به بنيةِ النجاة.
اخترقت المخالب الحادةُ كنصلِ سيفٍ يابانيٍ متقن الصنع أضلاعه وهي تقوده في طريق الموت.
قرّبه من فمه الواسع المنتن ثم صاح فيه خانقاً إياه بأنفاسٍ تشي بقُرى جثثِ الأحلام القابعة بداخله قبل أن يطحنه بين أنيابه.
ردد كل الأذكار التي طرأت على باله في تلك اللحظة خالطاً بينها دون وعيٍ بصدرٍ ينتفخ على امتلائه ثم يعود للتقلص بنسقٍ عشوائي.
ملّ من اختلاف مشاهد الموتِ التي تخاتله كلما خلد للنومِ فراح يسلي نفسه بتدوينها في دفترٍ خصصه لهذا الغرض وكتب عنوانه بخطٍ أحمر كبيرٍ على الغلاف (( الموت البشع: ألف طريقةٍ وطريقة)).
ابتسم لما تبين رحمة موتته الأخيرة بعد مقارنتها بسابقتها، فأن تموت من القضمةِ الأولى أهون ألف مرةٍ من نهاية حياتك مكبلاً على سكة قطارٍ يمر على جسدك مرة كل ساعتين دون أن تموت.
تصرخ بأعلى صوتكِ فيرتد صداه دون نجدةٍ رغم زحام الركاب المنتظرين للرحلة القادمة.
تذكر موعده مع محاميه الذي طلب لقائه قبل جلسة النطق بالحكم في القضية التي رفعها على مقر عمله السابق بعد إنهاء خدماته بقرارٍ تعسفي.
لام نفسه كثيراً في بادئ الأمر وظن أنه مقصرٌ في العبادات فانكب على سجادته حتى تخضبت بالدموع.
ولما راجع أحداث عقدٍ كاملٍ في ذات المنشأةِ لم يشهد فيه سوى زيادة مرتبٍ واحدة بعد خمسةِ أعوامٍ مروراً بأيامٍ طوالٍ قضاها على مكتبه الصغير خارج ساعات الدوام دون أي تعويض ماديٍ أو حتى معنويٍ امتلأ فمه بمرارةِ الخيانةِ وقرر السعي خلف حقٍ مشروعٍ له للمرة الأولى في حياته.
راجع كلمات المحامي الأخيرةِ الجازمةِ بكسب القضيةِ فكشفت شفتاه عن إبتسامةِ نصرٍ خففت من حدة المرارة.
إرتدى قميصاً أزرقاً جديداً ابتاعه خصيصاً لهذه المناسبة وسرح شعره الكث على جانبه الأيمن كما تحب أمه أن تراه محاولاً استحضار الفأل الحسن .
فتح شباك غرفته الكئيبةِ على مصراعيه إيذاناً للنور بالزيارة الأولى بعد طول غياب.
ولأن جسمه أقصر من أن يتيح له رؤية الأفق المنبسطِ خلف حدود الشباك قام بتثبيت طاولة القهوة منقوصةِ الأقدامِ على الحائطِ ثم صعد فوقها ورمى بنظرةٍ أخيرةٍ على أبنيةِ الحي العجوزةِ وهي تسند بعضها خشية الوقوع.
غمرته النشوة حين تذكر أحد أهدافه المسجلةِ إن كسب القضية.
مغادرة الحي الكئيب والإنتقالَ إلى شمال المدينة،وقتها سيتمكن من دعوة أصدقائه إلى منزله دون خجل.
بل ومن يدري ؟ فربما يهديه حظه يومًا فتاةِ أحلامه التي تقبل به بكل عيوبه وتساعده على تخطي كوابيسه المزعجة .
لم تحتمل الطاولةُ مبتورة القدمِ وقفته المتبخترة فمالت به واسقطته من الشباك مقاطعة موجة خيالاتٍ ورديةٍ سرعان ما تلاشت بعد ارتطامه بالشارع.
هرع العم موسى البقال نحوه ورفع جسده الملاصقَ للأسفلتِ كاشفاً عن ملامحٍ مضرجةٍ بالدماء فعلمَ بدنو أجله وراح يلقنه الشهادتين.
مر شريط كوابيسه عليه دفعةً واحدةً قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرةَ وارتسمت على وجهه ابتسامةً بلهاء بعدما أدرك طريقة موته التي لم تدونها مذكراته.
بكى العم موسى بعد رؤيته لتلك الإبتسامة وهو يغطي وجهه بصفحةٍ من عدد الأمس لإحدى الجرائد المركونة في دكانه واعتبرها من علامات شهادته.
*تنويه : تمت كتابة السلسلة القصصية الأولى في المدونة بعنوان حتف بناءًا على هذا النص . تجدها هنا
مبدع 👍