استيقظ عبد الرزاق من نومه مستعيرًا ابتسامة سيدة النور التي كانت معه للتو. نظر في وجه رفيق كفاحه ثم احتضنه بشدة ونطق بعد صمتٍ طويل ” سنجده الليلة ان شاء الله ”
هلل عباس فرحًا بسماع صوت صديقه بعد أن قارب على نسيان نغمته.
” سنجد ضالتنا في السوق” أضاف بعد أن تنحنح.
ارتعد فرجٌ بعد سماع الوجهة القادمةِ وأحس بالاختناق. ثم قال وهو يفز من تربعه على الإسفلت ” لا يا عم. بحثت عنه في السوق كثيرًا ولم أجد له أثرًا. من الأفضل ان لا تتعب نفسك”
ابتسم عبد الرزاق في وجهه ثم قال ” أنا متفائل يا ولدي، لنتسلح بالتفاؤل”
“ولكن..”
ضرب عباس بعكازه على بعد إصبعٍ من قدم فرج وصاح مزمجرًا ” من تظن نفسك حتى تثني كلام عمك؟ الزم حدودك يا سفيه”
“العفو منك يا عم العفو– ازدرد ريقه- كل ما اردت قوله ان البحث في ذات المكان مرارًا مضيعة للوقت”
” ونبحث ألف مرة! ثم منذ متى صرت حريصًا على وقتنا؟” قالها العجوز وهو يسلقه بعينيه الغائرتين.
أنجت جلبة ركض محمود الأبله فرجًا من التبرير المتواصل. برك الأبله على ركبتيه لاهثًا أمام ابن خضر ثم نطق بعد أن أفرغ قنينتي ماءٍ سارع فرج بمناولته إياها لتحسين صورته المحترقة في نظر عباس مخلوف
” ضرب الغول وضاح في السوق. وضاح غاب عن وعيه. وضاح مريض وضاح كان هناك ثم وضاح اختفى”
فردالأبله أصابعه من وسط قبضتيه وهو ينفث الهواء بفمه كناية على الاختفاء.
صوب عباس نظره في وجه خصيمه المتعرق وهم بالاقتراب منه قبل أن يقف عبد الرزاق بينهما في هدوءٍ ويسأل النذير” هل أنت متأكد مما تقوله يا محمود؟”
“نعم نعم متأكد، أخبرني بذلك نوح المكسّح، نوح لا يكذب أبدًا، هو لا يستطيع المشي على قدميه ساقه نحيلة مثل القصب-يضحك- ويزحف على الأرض مثل الثعبان، ثعبان له يدين لكنه لا يكذب أبداً نوح لا يكذب” مسح بعدها بكمه خيط اللعاب المتدلي من شفته.
ربت الشيخ الجليل على رأس الرسول ثم غمز لرفيق كفاحه وسار لوجهته التي لم تطأها قدماه منذ عقدين من الغضب.
أحس فرجٌ بخطواته ثقيلةً وهو يتبع كتيبة الانتقام السائرة نحو حتفها.
تمنى لو أنه كان يملك من الشجاعة ما يمكنه من الوقوف في وجه المسنين درءًا لمعركةٍ لن تحترم جلال شيبتهم . أو لو أنه كان رجلًا بما يكفي ليخبرهم بحقيقةِ اختفاء وضاح رغم أنه استنفد جميع صلاته بالفتوات لمعرفة مكان رفيقه.
ولم يسلم المسكين من شتائم عباس التي امتدت من الدكة وحتى مدخل شارع المواد الغذائية . ولم يكن العجوز يعتقه إلا لثوانٍ يشتم فيها الفتوات وسيدهم قبل أن يعود لعِرض فرجٍ من جديد.
وعلى مدخل شارع المواد الغذائية صرخ عباس مهتاجًا ” مهيوب الكلب! اخرج ان كنت رجلًا“
لوى صراخ العجوز أعناق مرتادي الشارع في وجلٍ ناحية الدخلاء الراغبين في معانقة الموت، مشى الرفيقان وسط الشارع في جسارةٍ ضخت الدماء في عروقهم حتى أنهم بدوا أكثر شبابًا وصار عباس يمشي وهو ممسكٌ عكازه من منتصفهِ دون الارتكاز عليه وراح يطالع رفيقه الذي يتأبط ذراع الأبله في زهو.
وما ان اعترض غربان الغول طريقهم أجفلت نظرات المسنين عزيمتهم وراح ابن مخلوف يهش عليهم بعصاه العتيقةِ ليفسحوا لهم الطريق دون أن يجرؤوا على ردعه.
أما عن فرج فقد تمكن من إخفاء نفسه وسط المارةِ خشية غضب الغول وراح يراقب الحدث من بعيد.
ولما وصلوا إلى طاولة مهيوب صرخ عباس في وجهه ” أين اختفى ابننا يا شبيه الرجال“
فحص الغول العجوزين والأبله مطولًا ثم نظر إلى جليسه نعيم وهو يهز كتفيه الشحيمتين باستهتار قبل أن يرد بصوته الحاد ” اطلب ربك في غير هذا المكان يا عجوز”
خبط عباس بقبضته على الطاولة مبعثرًا زبدية المكسرات الكامنة في وسطها وصاح مزمجرًا
“ لا تماطل وأخبرنا عن مكان الصبي وإلا دفنك غربانك في أقرب مقبرة للكلاب”
اهتز جسد البدين وغاب في ضحكٍ طويل ثم قال “ أكاد اموت من الرعب أيها المسن. إن كانت رغبتك في قتلي صادقة فإني اقترح عليك ان تنتظرني حتى أصير في عمرك، هذا ان اعطاك عزرائيل فرصة الانتظار”
“أين اختفى وضاح” خرج صوت عبد الرزاق هادئًا
توقف الغول عن الضحك والتفت ناحية والد ضحيته ولما رأى عزمه طافحًا من عينيه الصافيتين داهمه خوفٌ لا يغالبه إلا في حضور السيد. وعرف لحظتها عظيم حرمة الاستهانة بخصيم السيد الأبدي رغم بساطة هيئته.
“أين اختفى وضاح” أعاد المُهاب سؤاله مجددًا فانتفض الغول من مكانه كاشفًا عن تكوينه الضخم ورد متلعثمًا
” لا أعرف. لا أعرف ابنك أيها السيد”
لاحظ نعيم ارتباك صاحبه فقال ” لا علم لصاحبي بمكان ابن تاجر الكلف القديم”
” لا تدخل وسط الرجال أيها الـ**ـنث” رد عباس شاتمًا.
“ هل كان ابني حيًا عندما فرغت منه؟” انبعث الصوت الهادئ من جديد.
استجمع الغول قواه ورد مكابرًا ” لا أعرف عما تتحدث يا رجل، قلت لك انني لا أعرف ابنك أم أن العمر أثقل سمعك؟”
ضحك أحد غربان الغول فحدجه بنظرةٍ أحالت قهقهته صمتًا قبل أن يكمل ” ثم إن كان ابنك قد اساء للسيد وخرق قوانين المكان فلا بد وأنه لاقى ما يستحقه”
شعر عباس بالغضب وتقدم ناحية الغول وشرع يشتمه ويبصق على بطنه العريض فاستشاط الغول غضبًا وراح يكور قبضته وهو يكز على أضراسه .
وقبل أن يهجم على العجوز رمى فرجٌ بنفسه على الطاولة وصرخ راجفًا” اعذره يا زينة الفتوات، فلن يضرب رجلٌ شديدٌ مثلك رجلًا في عمر والدك”
” فرج الكلب! والله أني كنت اعلم! يا م**ـث يا شبيه الرجال أيها الخائن الحقير”
صرخ عباس مهتاجًا وأمسك بثوب فرج وراح يهزه ليسقطه من الطاولة بغية تنفيذ وعده.
صاح فرج وهو يحاول موازنة نفسه ” لا يا عم، اهدئ أرجوك ..لا صحة لما يدور في عقلك، اسألك بالله أن تتوقف”
“أتعرفهم يا فرج؟” تساءل الغول.
” صبرًا يا زينة الفتوات، سأشرح لك لاحقًا”
” لا شيء مما يدور في عقلي صحيح؟ تنعتني بالجنون يا ابن الخياطة، سأقتلك أقسم بالله أني سأقتلك”
” أنا لست مجنونا، أنا لست مجنونا، محمود ليس مجنونًا لا تقل إني مجنون! لا لا!” صاح محمود مدافعًا عن رجاحة عقله.
أمسك فرجٌ بتلابيب مهيوبٍ خوفًا من السقوط فانحنى تكوينه الضخم.
وعلى حين غفلة من الجميع، خطف عبد الرزاق عكاز رفيقه وطوح به في الهواء قبل أن ينقضّ بمنقار الصقر الفضي الرابض فوق قمته على عين الغول الذي أطلق صيحةً ابتلعت جلبة المكان وسمّرت الحشد.
انتزع ابن خضرٍ الصقر من عين الغول مفجرًا شلال دمائه ثم ناوله لصاحبه الذي صاح ذاهلًا ” هذا ما جنته يداك أيها الحقير، الدور القادم على سيدك”
ثم التفت للمارةِ المتسمرين فزعًا وصاح فيهم مخاطبًا وهو يرفع عكازه فوق رأسه
” سقط أول من تخشونهم بذرةٍ من شجاعة، أترهنون أرواحكم لرعديدٍ كهذا؟”
هرب نعيمٌ على حين غفلةٍ من الجميع قبل أن يحدث ارتطام وجهه على الأرض قبيل المنعطف عند نهاية الشارع جلبةً لوت أعناق المتجمهرين.
ولما رآه عباس غاب في ضحكةٍ مجلجلةٍ ثم واصل حديثه وهو يشير لنعيم
” غرق أشدهم بأسًا في دمه وأخبثهم يركض خائفًا كجرذٍ مبلول ألا يكفيكم هذا؟”
” صدقت يا عباس” صاح صوتٌ من وسط الجمع زائغ العينين.
تأبط عبد الرزاق ذراع محمود الأبله مجددًا وراح يمسح رأسه.
ثم استدار عائدًا نحو دكته وهو يردد في سكون “ العين بالعين والسن بالسن، العين بالعين والسن بالسن هذا هو الناموس”