لما أفاق وضاح من غيبته التي أخذته وقتًا طويلًا لم يكن ليعي ما حوله. فقد تواطئت عليه ذاكرته في زمن غيابه وأسقطت الأحداث الأخيرة التي ألمّت به دون مراعاة.
تكشف عينه اليسرى عن فراغٍ معتم، ودس الهواء برودته بين عظمه ولحمه مخلفًا وجعًا لئيمًا يجبره على الأنين بصوتٍ خفيضٍ مبحوح ٍ مصحوبًا بسعالٍ يجرح جوفه. وكلما علا إدراكه ضج عضوٌ جديدٌ من جسده بالشكوى.
أوحى له عقله المعتل بأنه يعيش برزخه.
أغمض عينيه واستحلب ذاكرته لاستحضار إجابات أسئلة الامتحان الفاصلِ طمعًا في نعيمٍ ينسيه ما فيه من ألمٍ آخذٍ بالازدياد.
الألم! حينما تفطن لوجعه وهو يفكر في مصيره ناح مرعوبًا من احتمالية أبديته، وأن ما يقاسيه ليس إلا مقدمةً لعذابٍ سرمدي، رغم استحضاره لإجاباتٍ تضمن له تذكرةَ برزخٍ منعم.
“”الله. محمد. الإسلام”
حفر الإجابات بأصابع يمناه على بقايا التراب الذي يحد فراشه الوطيء كي يسهل عليه تذكرها إن خانه عقله المريض أو عجزت أحباله الصوتية المتيبسة من قلة الاستخدام عن النطق.
بعد لحظات، زين له عقله حالته، فما ألمه إلا نزرٌ أخيرٌ من بقايا ضربات الدنيا، وما استحضاره للإجابات رغم حالته إلا دليلٌ على اصطفائه . فارتسمت على وجهه ابتسامةٌ بلهاء.
أدار برأسه الثقيلة ناحية اليمين بحثًا عن تموضعٍ يخفف عنه سطوة الصداع الذي يفتك به. لمح خيطًا من نورٍ يتسلل من شقوق جدار الفراغ المعتم الذي يحبسه.
تتبع الخيط حتى نهايته علّه يكشف له عما يستتر في جوف الظلام فلم يفلح في بحثه، ثم سمّر عينه السليمة على الخيط الأبيض الذي يقطع الكتلة السوداء التي تبتلعهما واتخذه مؤنسًا لوحدته إلى أن يحين المصير وأرخى بسمعه أملًا في اصطياد بشرى فلم يُصِب.
فجأة لمحت عينه الواهنة حركةً سريعةً لشيءٍ خلف خيط النور، وعندما اخترق حيز المخلوق الغامض خيط النور رآه مقبلًا نحوه على أطرافه الأربعة.
وقبل أن يدرك عقله المشوش ماهيته لفحت وجهه أنفاسٌ عطنةٌ مزقت غشاء العتمة الذي يغلفه كاشفةً عن وجهٍ طويلٍ ممصوصٍ خالٍ من الشعر، تقطعه ابتسامةٌ عريضةٌ مفرغةٌ من الأضراس.
الابتسامة التي استحالت ضحكة مجلجلة خدشت عذرية الصمت.
تأمل وضاح الوجه المقابل ببلاهةٍ دون استيعاب. حتى إذا أدرك الحدث، زعق مرتاعًا حتى غاب عن وعيه.
***
أفاق
المرتاع على شعاع ضوءٍ مصوبٍ على وجهه يفوق احتمال بؤبؤه الذي اختبئ خلف جفنه
بسرعة. ولما شعر بإزاحة الضوء عن قسماته فتح عينه السليمة على مهل، ثم لمح خلف
شعاع الضوء شبحين اقتصرت ملامحهما على حدود جسديهما، واحدٌ فارع الطول والآخر قريب
من الأرض. فقدر أنها ساعة الامتحان.
وقبل أن يسمع السؤال، أرسل عقله المضطرب الإجابات الثلاث إلى العضلة الراقدة بين فكيه، لكن جوفه لم يصدر إلا فحيحًا مغمغمًا.
حاول الإجابة مجددًا غير أنه لم يفلح إلا في إصدار الفحيح ذاته، فصار يحس بحبات العرق المحتشدةِ على جبينه ثقيلةً وغالبت الرجفة جسده العليل.
مد سبابته ناحية الطلاسم المحفورةِ أملًا في لمس ذاكرته فلم يجدها في الموضع الذي دسه فيها، فنشج خوفًا من مصيره المختلق.
اقترب الشبح الممسك بمصدر الضوء عدة خطواتٍ وثبت الشعاع على وجه وضاح.
وضاح المسكين الذي حاول أن يلفظ الإجابات للمرة الأخيرة اتقاءًا للعذاب فأنتجت أحباله ذات الفحيح الممجوج.
ولما قرب الشبح يده من رأس وضاح أحس المسكين بأوان عذابه فشرع يصرخ فزعًا. سحب الشبح يده بخفةٍ وعادت به خطواته إلى أين يقعي رفيقه وراحا يراقبان المشهد.
وبعد وصلة صراخٍ متصلة تحرك لسانه الثقيل وراح يلفظُ كل محاولاته السابقةِ دفعةً واحدة.
” الله. محمد. الإسلام. الله محمد الإسلام. الله. محمد. الإسلام. الله محمد الإسلام. الله محمد الإسـ..”
عندما خفت صوته جلجل الشبحان بالضحك، حتى أن ساقا أحدهم لم تعودا تسعفانه على الوقوف فارتمى على الأرض وراح يضربها بكفه دون سيطرة.
” المسكين يظن بأننا نحاسبه-يسعل من شدة ضحكه– الأحمق يظن بأنه مات”
“هل.. هل.. هل.. هل!! هل رأيت هذا؟ هل سمعت؟ يااه أهداني هذا الفقير قصة المساء”
أدار ممسك مصدر الضوء الشعاع على وجهه ليكشف عن ملامحه الشابةِ ووجهه الحليق ثم قال وهو يغالب هستيريا ضحكه
” اهدء يا رجل، يبدو وأن المرض قد نال من عقلك”
أمسك الشبح الشاب يمناه. واصل ” احمد الله كثيرًا على أنك ما زلت تعيش فقد فشلت فشلًا ذريعًا في محاكاة برزخك”
تحرك الشبح الآخر على قوائمه الأربعة ومشى ناحية العتمة مخترقًا خيط النور الفاصل عائدًا لمهجعه. راقبه وضاح بعينه متجاهلًا رفيقه.
” هذا هو الصوفي بِشر، الرجل الذي قام برعايتك طوال خمسةٍ وأربعين يومًا كنت فيها غائبًا عن الوعي “
رفع وضاح رأسه وصاح فزعًا” خمسة وأربعون يومًا!!” أحس بالشوك يقطع جوفه.
” وهل تظن بأن مهيوب كان رحيمًا بك؟”
“مهيوب؟” تسائل صاحب الجسد المسجى.
” أوه. يبدو وأن مشوارنا طويلٌ جدًا أيها الصوفي”
رد الشبح المتمرغ في العتمةِ بضحكةِ نمسٍ شبع لتوه.
” لا تقلق ستتمكن من شكره لاحقًا حين تستطيع الوقوف على قدميك”
مرر الكشاف على جسد وضاح كاشفًا عن الضمادات البيضاء التي تغطي معظم جسده وراح يشرّح الجسد لصاحبه
” يدك اليسرى مكسورة، ساقك اليسرى أيضًا. لكنها آخذة في التحسن بشكل جيد وأعتقد بأنك اختبرت يدك اليمنى وأنت تحفر الإجابات – سيطر على سخريته- يدك اليمنى سليمة”
“ولماذا لا أبصر بعيني اليمنى؟”
صمت الشبح قليلًا. همس لصاحبه بكلامٍ غير مسموع. تنحنح ثم أضاف متجاهلًا سؤال المريض “أما عن وجهك فلا تحاول نزع الضمادات عنه أبدًا. وسيقوم بِشرٌ بتبليل وجهك ودهنه بشكلٍ دوريٍ كي لا تموت بالحكة”
قرب منه وعاءًا معدنيًا فاستنشق وضاح رائحة حساءٍ بارد.
” هذه وجبتك الترحيبية ” قرب الملعقة من فمه فامتنع المريض بعنادِ طفل شقي.
” لا مشكلة، عندما تشعر بالرغبة نادي على صوفي. سيكون سعيدًا بمساعدتك”
بانت ابتسامته من خلف الشعاع، قام من مكانه وهم بالمغادرة.
” لم تجبني على سؤالي” نطق وضاح بصوته المجروح.
توقفت حركة الشبح الشاب وتركز الشعاع على البقعةِ المحاذيةِ لحذائه.
” لماذا لا أرى بعيني اليمنى؟”
“….”
“لم أفقدها صح؟ … هل فقدتها؟ …أجبني”
” لا تكن جاحدًا. وتعلم أن تعيش بما بقي منك”
قالها دون أن يلتفت. أطفأ المصباح، وواصل السير بعدها.
يتبع
” لا تكن جاحدًا. وتعلم أن تعيش بما بقي منك”👏🏽👏🏽
عودًا حميدًا 💃🏽
💐