التقيته صباحًا وهو ممددٌ بين المكاتب السادة يعوض ما فاته من نومةِ الليل كما جرت عادته اليومية.
تقطع قدمه الممددة على الكرسي المتحركِ الثابت مهابةً طريقي إلى مكتبي المركون في آخر الممر يساراً.
وقبل أن أقفز حاجز ساقه كثيفة الشعر، لمحت وجهه أملًا في استيقاظٍ يغنيني عن تمارين الأولمبياد المخالفةِ لطبيعة جسدي الشحيم.
سقط شماغه عن رأسه كاشفًا عن جبهته العريضة التي تعاني من جزْرٍ في الشعر يمتد حتى منتصف رأسه. علله مرةً بملوحة ماء الاستحمام الذي قتل بصيلاته وتآمر على انهاء إمارة خصلاته البهية قاتلًا أحلام إناث الفيلة وباترًا لنزواتهم.
وكأنه كان يستحم.
ذكرني فمه المشرع على آخره بآخر “لا” رافضة أجاب بها طلبي له بمساعدتي في معاملات الأمس بحجة صعوبة مرحلة “الكاندي كرش” البائدة والتي تتطلب تركيزه التام لتجاوزها.
قالها وهو يغالب تجشأه المستمر الذي يرجف بجسده الخالي من الشحومِ إلا من كرشٍ متكورٍ يربيه للهيبة.
نجحت في تجاوزه والوصول لمكتبي بعد أن أدركت بُعد موعد استيقاظه مستدلًا بنبرة شخيره.
ولأمانة الوصف، لم يكن شخيره عاليًا. أعني لم يكن عاليًا في هذه المرة.
هو عالٍ بالمقياس الطبيعي للبشر، لكنه كان خفيضًا مقارنة بسجل شخيره.
أقصد أنه إن انت ارتديت سماعةً تعزل الضوضاء، ورفعت صوت الموسيقى إلى أعلى من النصف بقليل، فلن ينالك سوى نهاية جملته الموسيقية.
“مدير!!”
صاح شبير عامل النظافة المكلف بابتياع افطاره بنية إيقاظه من موتته الصغرى، فقام مفزوعًا بعينين وجلتين كناجٍ من الهدم خشية غارةٍ مخاتلةٍ من مديره.
وبعد أن مسح ما تدلى من فمه من لعابٍ حدج شبير بنظرةٍ جافةٍ سرعان ما رققها الفرح لحظة التقائها بقرص التميس المتعرق من فرط سخونته.
لم تدم سعادة طويلًا بعد أن رد له شبير باقي حسابه منقوصًا من ريالين على غير العادة.
بررها العامل المسكين بزيادةِ سعر الفول. الأمر الذي رفضه صاحبنا جملةً وتفصيلًا، متهمًا رسول معدته بالاختلاس، ثم طالبه بفاتورةِ تحمل إدانته أو ربما براءته.
” مدير، فوال ما في فاتورة” رد شبير هازًا رأسه وهو يخفي قلقه خلف ابتسامةٍ وجلة.
“اخلِ سبيله يا رجل، فالمبلغ بسيط” ارغمتني نظرات شبير المتوسلة على الوساطة.
” يصير البسيط عظيمًا إن نحن تغافلنا”
” لكن شبير صادق يا رجل، فأسعار المواد الأولية في ازدياد، وزيادة السعر مبررة”
“أعفني من تدخلك سيدي خبير الاقتصاد” قالها متململًا
“الريالان عندي ”
“لا” استدارة الفم الكريهة ذاتها تتراءى من جديد.
“ والآن شبير باي، أعطني مالي” قالها وهو يرتدي نظراته الجافة مجددًا.
“مديـ..”
“أص!! لا تطل”
أومأت للعامل المغلوب على أمره أن أنله بغيته وغادر المكان لتسمح له بانتصارٍ وهمي يصنع له يومه.
فانصاع منكسرًا.
وفي ثوانٍ كانت سفرته مفروشةً وعامرةً بما يمده من طاقةٍ وغازاتٍ إلى حد الظهيرة.
وبعد أن دشّ حبة البصل بمحاذاة الصحن الدائري، راح يحدث نفسه بصوتٍ مسموع متسائلًا وباحثًا بما يعمل من خلايا مخه عما ينقص مائدته.
بعد لحظاتٍ فاح عطر فيروز من هاتفه متبوعًا بـ “ياسلااام!” منشرحة، ودندنة تختلط بطرقعة مضغه الملحوقةِ بشفطاتِ شايٍ تجرح طبلة الأذن.
وأستطيع التأكيد جازمًا على أنها من أسباب خلافات فيروز مع الرحابنة، حتى وإن كانت بأثرٍ رجعي.
ولما قررت الانكباب على ما تراكم علّي من عملٍ باغتتني قطعة تميسٍ طائشة تركت آثار زيتها على صدغي فتلفتُ مذعورًا، لأجده فاردًا ذراعيه على امتدادهما ومغمضًا عينيه في لحظةِ خشوعٍ منفّرٍ تأثرًا بتطريب فيروز وهي تردد ” أنا عيناك هما سكني”
ويا ليت المسكينة تعلم.
” لم تكن محقًا في تصرفك يا رجل ” قالها وهو يتمطى بعد أن فرغ من معركته.
” كيف لك أن تدافع عن أمثاله على حساب زميلك؟”
” لم أدافع .. أسبابه مقنعة”
” مقنعة!! سبحان الله! فجأة زادت تسعيرة الفول ! طعام الفقراء والأغنياء الذي لم تزد تعريفته يومًا منذ أن نبت إلا مع شبير؟ احذر ان يسرقوك بالعاطفة”
” يا أخي يا أخي ارتفعت تكاليف المعيشة، أين تعيش؟”
” أعيش في العالم الذي يبقى فيه سعر الفول ثابتًا، لا تعلمني البديهيات سيدي الفطين”
ساد صمتٌ مربكٌ تخدشه نحنحته المتقطعةُ لابتلاع ما علَق في جوفه من قشورِ الفول، قبل أن اقطعه نهائيًا برغبتي العارمة في إفاضة الشرح وربما لكمه على حلقه بعدها
“اسمعني للأخير، يتم تحميل تكاليف العمال والصيانة والكهرباء والمواد الأولية وغيرها على قيمة المنتج النهائي، هذا شيء بديهي وأساسي، قل لي بالله عليك كيف يحقق التاجر مربحه؟”
” كل هذا دفاعًا عن لص؟ يا زُمُل لا تكن سخيفًا” قالها وهو يقهقه ساخرًا.
” لماذا لا تستوعب أنهم يأكلوننا ونحن نيام؟ يتبسمون في وجهك ثم يتبولون على ظلك، هذا إن لم يسرقوه أصلًا” عقّب.
” لا تعمم”
“كلهم يا شيخ”
“هذا ظلم يا رجل”
“الظلم هو ما نعيشه، وليتهم يكتفون بأكل حلالك ونهب ما تيسر لهم من مالك، بل رحوا يعبثون بقيم المجتمع وثوابته ظانين بأننا لن نقوى على كشفهم ومحاسبتهم إن هم وقعوا في المحظور.
استقطع من وقتك بضع دقائق وخذ جولةً على تويتر، تويتر فقط وسترى من العجب ما يبكيك، يرتدون ثيابنا ويتكلمون بلساننا ثم لا يرتدعون عن أي فعلٍ فاضحٍ يشوهنا وينكِّس رؤوسنا بين الأمم، هذا والله آخر الزمان” ضرب كفًا بكفٍ وراح يهز رأسه.
“لازلت تعمم يا صديقي”
“كلهم واحد.. فاكهة فاسدة من الصندوق نفسه”
“وكيف تمكنت من تبرئة أبناء جلدتنا من هكذا تصرفات؟”
انتصبت قامته وعلت نبرته وقال وهو يحرك سبابته الدبقة في الهواء
“نحن شعبٌ تربى على مكارم الأخلاق التي لا نجرؤ على تدنيسها “
” يعني أننا شعب الله المختار! لا تنس بأنهم تربوا على ذات الأخلاق الإسلامية التي كبرنا على مبادئها “
ضحك بأعلى صوته ثم قال وهو يخفي فمه خلف كفه” لا تسرح بخيالك بعيدًا، من سابع المستحيلات أن يكونوا قد حظوا بذات التربية والنشأة التي هي لنا. من هنا انتشرت الرسالة إلى أصقاع الأرض، هذا يعني بأننا الأكثر قربًا من مصدرها والأقوى تمسكًا بقيمها السامية “
صمت قليلًا ، هرش ذقنه قبل أن يضيف ” اللهم عجل بزوالهم”
“قم بنفيهم إلى بلدانهم، ولا تجئ بهم أبدًا”
قاطع جدالنا العقيم دخول رجلٍ دل ارتباكه على حداثة تعيينه في الشركة.
” السلام عليكم، محسوبك مرسي” عرّف بنفسه ثم عرض مسألته قبل أن يشكرنا وينصرف بإجابتنا له.
” لم يبق إلا أن ينزعوا علينا ثيابنا” قالها متضجرًا.
” قلت لك، لا تجئ بهم من بلدانهم”
حك نصف رأسه الخالي من الشعر وكأنه يستحضر جني المصباح ثم قال” ومن سيقوم بأشغالهم الوضيعة إذًا؟“
“لن نكون منقوصين ممن يدافعون عن عرقنا من أمثالك، أنتم الأكفأ لسد هذا الفراغ”
” خسئت يا بن الفلبينية” رمى بها وبصوته إلى آخر ساعة عملٍ في اليوم.
الحوار بطلللل 👏🏽👏🏽👏🏽