كانت زيارة خالي هي آخر شيء نحتاجه في هذا الوقت . وخالي سمير هو الأخ الوحيد لوالدتي التي تكفلت بتربيته بعد وفاة جدتي . قبل أن ترتبط بوالدي ليبقى خالي سمير وحيدًا مع جدي.
قضى خالي مدةً غير قصيرةٍ في السجن بتهمةِ السرقة ، ولام والدتي على حبسه لأنها تخلت عنه لتعيش مع رجلٍ غريب كما يرى.
ولم يكن والدي ليغضب من إدعاءات صهره بقدر غضبه على حزن زوجته التي تحب أخاها بقدر حبها لابنائها ولاتزال تؤمن بكونها أحد أسباب حبسه دون قصدٍ منها.
دائمًا ما كان يغيب لسنواتٍ ثم يعود لأمي بذات الحجة ” اجتماعات مع مستثمرين محتملين وضعوا ثقتهم فيه لإنشاء مشروع جديد”
ولم يكن هؤلاء المستثمرون سوى والدتي التي ترفده بالمال دون حصولها على أي عائدٍ على استثمارها الخاسر دائمًا.
لكنها كانت تطير فرحًا في كل مرةٍ يزورنا فيها وتحرص على إطعامه بما يشتهي. وعادةً ما تصير شخصًا مختلفًا في حضوره . شخصًا لا نعرفه لكننا نحبه لأنه متمثل في صورة أمنا .
فجأةً يصير كل محرمٍ في بيت عبدالرزاق خضر مباحًا لسمير.
أكاد أجزم بأن خبر قدومه هو السبب الرئيسي لبيع العِقد.
أصابني الهلع بعد رؤيتي لاكتظاظ النسوة في دكان الذهب المنشود .
فدلفت للداخل مسرعًا أتجاوز الأجساد برشاقةٍ غريبةٍ على جسدي حتى وصلت لأحد الباعةِ وناولته الإيصال لأسأله عن العِقد .
قلّب ببصره بين الإيصال ووجهي ثم نادى على رجلٍ خمسينيٍ متأنقٍ بدا سعيدًا بكمِّ النساء المحتشدِ في متجره.
أعاد العجوز ببصره ذات الكرّة بين الإيصال ووجهي ثم قال مبتسمًا
” بعت هذا العِقد لسيدةٍ قبل قليل. وستأتي لاستلامه بعد صلاة العشاء”
استندت على طاولت العرض الزجاجية خشية الوقوع . أحسست برغبتي في التمرد على حظي العاثر ثم صرخت فيه
” لا يمكن! لا يمكن . يجب عليك إلغاء هذه البيعة على الفور”
” لا ترفع صوتك يا غلام . تم البيع ولله الحمد ولا توجد لدي نية لإلغائه”
حقًا هذا ماكان ينقصني . تذكرت تحذير والدتي فعدّلت من نبرتي ثم خاطبته بلطفٍ مصطنع
” أنا آسفٌ يا سيدي. أرجوك أوقف هذه البيعة . فالعِقد يعني لي الكثير . والسيدة الفاضلة التي باعته لك اليوم لم تبعه إلا لحاجتها . أرجوك أريد استعادة هذا العِقد”
” هذا مستحيل” قالها بمكر. آه لو أن لي قوة.
“سأدفع لك أكثر مما دفعته المشترية ”
صمت للحظاتٍ وهو يحك شفته السفلية . ثم قال “ ستدفع لي ألفا ورقةٍ نقدية”
“ لك ذلك” غزتني راحة مؤقتة.
تبسم بخبث ثم واصل ” ألفا ورقةٍ نقديةٍ زيادةً على القيمة الفعلية. يعني ستدفع سبعة آلاف ورقة نقدية وسأمهلك حتى ظهر الغد”
“لكنك اشتريته بأربعة آلاف “
” سعر الشراء شيء وسعر البيع شيءٌ آخر . وانت فتحت المزاد . إذا أذن الظهر أُلغي الاتفاق”
كتب العجوز المتصابي سطرًا على ظهر الإيصال ثم ناولني إياه بفوقيةٍ مقيتةٍ لا يسعفني وقتي القليل ولا حاجتي لالتزامه باتفاقنا لإبداء أيةِ مشاعرٍ تجاهها.
خرجت من الدكان راكظًا أسابق الزمن لجمع مبلغٍ لا أملك منه شيئًا دون أن أهتدي لوجهتي القادمة.
وكلما فكرت في طريقةٍ لجمع المال وجدت محصلتها أقل من ربع المبلغ المرصود.
طرأت فكرة بالغة اليأس على ذهني فتوجهت لشارع المواد الغذائية ورحت أبحث عن مهيوب. الغول الذي هددني بإفقادي لحياتي إن لمحني مرة أخرى.
ها أنا راغبٌ في مواجهة الموت.
اهتديت لمكان وجوده عن طريق صوته الحاد الخارج من أحد الدكاكين ، وتأكدت منه بعد رؤية غُرابين يقفان عند ناصية الدكان ، فانطلقت ناحية الباب مسرعًا .
وقبل أن أدوس على عتبته أرداني أحد الغرابين على الأرض بلكمةٍ مخاتلة.
خرج الغول بعد أن تنبه للجلبةِ ونعق في غضبٍ بعدما رآني متكومًا على الأرض “ أتكره حياتك إلى هذا الحد يا دبور؟ “
تحاملت على نفسي كي أقف. حتى إذا اعتدلت قلت له بصوتٍ متقطع “ جربني ولو ليومٍ واحد يا مهيوب، والله لن أخذلك”
ضحك الغول بصوتٍ عالٍ قبل أن يُحكِم بقبضته على عنقي بشكلٍ مفاجئٍ ثم رفعني من على الأرضِ كخرقةٍ بالية وصرخ في وجهي.
“ كم من المرات علي أن أبلغك بالرفض؟ ألا يعي عقلك الثقيل هذا قولي؟ ” قالها وهو يضرب العروق البارزة على صدغي الأيمنِ بيسراه.
شعرت بقرب انفصال رأسي عن بقية جسدي وبدأت ومضاتٌ من شريط حياتي الشقية بالظهور أمام عينيّ الجاحظتين . إلى أن أنقذني ضجيجٌ آتٍ من الرصيف المقابل .
الضجيج الذي أجبر مهيوب على أن يرميني على الأرض ويتجه صوبه.
فتحت فمي على قدر إتساعه لجمع الهواء .
وما إن استعدت شيئًا من قوتي توجهت مسرعًا لأسبق مهيوب إلى موقع الضجيج الذي سببه واحدٌ ممن يبسطون بضائعهم على الرصيف ورفض أن يدفع الزيادة المفروضة على أجرة اليوم.
لم يكن هذا الرجل سوى العم جلال واحدٌ من أقدم أصدقاء والدي الخُلّص.
استشاط الغول غضبًا بعد أن حكى له غرابه تفاصيل الوقيعة ومشى في اتجاه العم جلال مزمجرًا “ سيلقى كل عاصٍ حقيرٍ جزاءه. القانون واضح”
دعوت الله في سري بأن لا يصيب العم أي مكروهٍ وشعرت بعجزي إن نويت الدفاع عنه ومواجهةَ الغول .
إلتفت مهيوب ناحيتي بصورةٍ مفاجأةٍ وقال “ أما تزال هنا؟ يالجرأتك ”
ضحك ثم نطق بما لم أكن أرغب بسماعه مطلقًا ” اعتبر هذا اختبارًا لك“
” أنا؟ ” قلتها ذاهلًا .
” نعم أنت . أريد رؤية تصرفك في حالة كهذه”
مشيت بخطواتٍ متثاقلةٍ إلى أن واجهت صديق والدي الذي بدا صامدًا لا يهاب الموقف.
خاطبت الشيخ الوقور بنبرةٍ خافتة ” من الأفضل ياعم أن تحمل أغراضك وتغادر على الفور“
بادرني العم بابتسامةٍ شامتةٍ استفزت مهيوب الذي قال بصوته الحاد
” كل هذا العناء والرجاء وتقبيل الأيادي والأقدام ، ثم تفشل في اختبارك الحقيقي الأول؟ أين هي الكاتا الثالثة ياوضيع ؟ ”
تجاهلت الغول وعدت لمخاطبة صديق والدي بإلحاح ” عم جلال ، من الأسلم لي ولك أن ترحل فورًا “
” وهل يدري والدك عن صنيعك؟ “ قالها شامتًا
واصل ” لا أستطيع تخيل حسرة عبدالرزاق وهو يراك بهذا الانحطاط. اضربني وانهِ المسألة الآن”
تكاثف العرق في رأسي وازدادت رجفة أطرافي عندما مر ذكر والدي.
هل سيغفر لي ؟
“اضرب . مالك لا تضرب يا غلام! ” صاح العجوز.
كانت صورة والدي تُشِع من عينيه وتحرق عزيمتي.
شُلت يدي . يدي التي رحت أكورها بصعوبة بالغة.
” أجهز عليه يا وضيع” صاح الغول .
وفي مشهدٍ سريالي بصق العجوز على وجهي فعاجلته بلكمةٍ يمينيةٍ على فكه الأيسر أسقطته أرضًا وفجرت جزءًا من شفته ، وسط ضحكات الغول وغربانه المعاتيه.
أي وضاح! صارت يمينك شمالًا.
صرخت دون وعيٍ ورحت ألكم الأرض حتى تخضبت قبضتي بالدم.
والتفت ناحية مهيوبٍ الغارقِ في قهقته وصرخت فيه ” هاه ! هل أعجبك المشهد؟ هل نجحت في اختبارك ؟ هل صرت أحد غربانك!”
استدار غربانه ناحيتي بوجوهٍ متجهمةٍ تصطلي بشر دواخلهم. وما إن اقتربوا من جسدي النحيل حتى تسابقوا عليه يدوسونه بأحذيتهم الثقيلةِ استرضاءًا لهيبةِ سيدهم.
سيدهم الذي انحنى بتكوينه الهائل على جسدي وداس على رأسي بقدمه الضخمة، ثم صرخ “ لن تحضى أبدًا بشرفِ اتباعي في حياتك كلها أيها الدبور الحقير. أبدًا أتفهم؟ “
ثم…
ثم أني لا أذكر أي شيءٍ مما حصل بعدها.
يتبع