أن يضحك والدي من أعماقه هو هدفٌ تعاهدنا على أن نمشي في طريق تحقيقه، فطوم أمي وأنا .
وكلما غالبنا ظن الوصول لمبتغانا وجدنا أنفسنا نضِل الطريق.
عشرة أعوامٍ من ترحٍ يهزه حتى نزع معالم البهجة من محياه.
أما أمي فقد مارست دور إيزيس وهي تحاول جمع أشلاء سعادة زوجها دون كلل .
اليوم بُعِث أوزوريس.
استقبلتني ضحكته من باب المنزل وغمرتني بدفءٍ كنت قد فقدت إحساسه منذ عقدٍ من الزمان . وضعت حذائه الأثير في مرقده العتيقِ على عجلٍ ورحت أتبع صوت الفرح إلى مصدره خشية الوهم.
كان جالسًا عند قدمي فطوم القاعدةِ على كرسيها المتحرك في الصالة ، يدلكها ثم يلثمها بفرح.
قلبت ببصري بينه وبين فطوم التي كانت غارقةً في سعادتها هي الأخرى، ثم بحثت عن والدتي. ولما لم أجدها قدرت أنها مختبئةٌ في مطبخها كالعادة.
من أين جاء كل هذا الفرح؟ هل للفرح تاجرٌ لأبتاعه منه و أبقيه فردًا دائمًا من أفراد عائلتنا البسيطة؟
” ماشاء الله أراك سعيدًا اليوم. يبدوا وأن الشيخ عدنان تمكن من تسديد ما يدين به لك أخيرًا ” سألته على طريقةِ من يقاطع حدثًا في منتصفهِ ويريد استدراك ما فاته.
إلتفت ناحيتي وقدما فطوم تختبئان بين كفيه.
كان خداه يرتويان بماء عينيه المقدس وشعره الفضي الجليل المسرح على جانبه الأيمن يزداد لمعانًا مع كل إيماءةِ فرح .
بانت نواجذه ثم قال ” لا دَين عدنان ولا حتى إفلاس خزينة السيد قادران على جعلي سعيدًا كما هو حالي في هذه اللحظة“
صمت قليلاً.
ازدادت ابتسامته إشراقاً ثم واصل “حركت السندريلا أصابعها قبل قليل”
لم يستطع السيطرة على شلال ماءه المقدس وخرَّ ساجدًا عند قدميها يقبلها من جديد.
أصابتني العدوى. ودون إدراكٍ لكيفيةِ قطع المسافةِ وجدتني غارقًا في بحر شعر فطوم المعتم أقبل قمةَ رأسها وشلال مائي الآسن ينفجر معكرًا كل ما يسقط عليه. مسحت على رأسي بيمناها لتمحو خطاياه.
لو أن السندريلا تمكنت من تحريك الحياة بأصابعها من قبل لجرب والدي طعم السعادةِ قبل أن يبّيضَّ شعره .
خرجت أمي من غرفتها وهي ترتدي فرحها مع عباءة الصلاة. بدا أنها كانت تصلي لله شكرًا على دبيب شيءٍ من حياةٍ في أقدام ابنتها. دخلت للمطبخ ثم عادت تحمل كؤوس الفيمتو احتفاءًا بالحدث.
كان فرحها مضاعفًا فلم يدخل الفيمتو بيتنا منذ خمس رمضانات.
” هذا يعني أنك ستسابقينني مجددًا” همست في أذن فطوم فضحِكت.
هل ذكرت جمال ضحكتها من قبل؟
“ وسأسبقك هذه المرة” ردت علي بصوتها الأحلى من تغريد البلابل الأسطورية.
لازال والدي متبتلًا عند قدميها يحاول التكفير عن شيءٍ من خطيئته.
الخطيئة التي نزعت الراحة من قلبه منذ عشرة أعوام ، حين بدأت تنتاب فاطمة نوباتٌ عصبيةٌ مفاجئةٌ ورجفة مفزعةٌ خارجة عن سيطرتها في أطرافها.
أخذها والدي إلى جميع الأطباء الذين أكدوا بدورهم على سلامتها العضوية والعصبية. أرخى بعدها السمع لبعض أصدقائه واصطحبها لراقٍ شرعي.
الراقي الذي وصف حالتها بتلبس جنيٍ عاشقٍ يتوجب طرده على الفور.
وبعد جلساتِ نفثٍ وجلدٍ لم تزل آثاره إلا بعد ألم وندم .
قاد يأس والدي ابنته إلى معالجٍ شعبيٍ ذاع صيت قدرته العجيبةِ على إبراء المشلولين وإراحةِ المبطونين بفضل صدفةٍ عرّفته على معلمه الآسيوي المبجل الذي أهداه عصارة خبرته.
المعالج الشعبي الذي يذكر الله مع كل ثني ركبةٍ أو تدليكٍ لمواطنِ الألم ، حتى لأنك تحسب بأن المسيح بعث من جديد.
وبفضل ملاحظته الدقيقةِ لمعلمه فقدت فطوم قدرتها على المشي من جديد بعد (طقةِ) ظهرٍ علاجية خاطئة.
طمأن المعالج وقتها والدي بأن فقدانها للمشي عارضٌ مؤقتٌ لا يتجاوز تأثيره اليومين وستعود بعدها للمشي مجددًا بفضل زيت الزيتون المنفوثِ فيه والمقروء عليه بالمعوذاتِ وآيات الشفاء.
لكنها لم تعد.
كان اليومان اللذان حددهما المحتال وقتًا كافيًا للهروب من عيادته بآمال المرضى وخطوات فطوم إلى الأبد.
يومها فقد والدي قدرته على تصدير السعادة .
وراح ينسحب من البيت شيئًا فشيئًا حتى انزوى بين كتبه يجفف دموع ندمه بصفحاتها.
غير أن أمي لم تكن لتفقد الأمل ، ووضعت متاريس الرجاء في طريق اليأس.
راحت تبيع كل ما تملكه لتغطية تكاليف العقاقير وجلسات العلاج الطبيعي. ولم تتوقف عن البيع إلا في فترةٍ محدودةٍ تكفلت فيها جمعية خيرية بتكاليف الطبابة قبل أن تغلق أبوابها نهائيًا بحجةِ ندرة المتبرعين .
أثارت فكرةُ بيع سيارة والدي حماسةَ أمي فلم يعارض ولم يُبدِ قِلة أمله في شفاء ابنته.
“فترة قصيرة وتعود أقدامك النونو للمشي من جديد” قالها والدي وهو يطالع قمره.
“سأمشي ان شاء الله” همس القمر.
” ستمشين . نعم ستمشين بإذن الله . سأتصل بشيخنا عبدالكريم وأشرح له الوضع ليحدث ابنته لعل الله ييسر طريق شفاءك على يديها.
هي طبيبة أسنان بارعةٌ تعمل في مشفىً كبير . حتى أنني فكرت في اصطحاب والدتك عندها لتعالج أسنانها الضعيفة –يضحك– ألا تتذكرين ابناء الشيخ عبدالكريم يا أماني؟ ”
” لا أذكر إلا ابنه الكبير المضطرب . كان حالمًا في طفولته على ما اذكر. كان يثبت نظره إلى السماء كلما تحدث أو غضب.
ولا ينفك يحكي لأقرانه عن قصصه الخيالية وصراعاته اللامنتهية مع الأسود والغيلان . كيف حاله؟”
” اختفى عن الأنظار منذ مدة ولم يعد يُرى أبدًا. المهم الآن هو أن ندعوا الله بأن تنجح وساطة ابنة الشيخ هذا ما نحتاجه الآن”
قام والدي من مكانه وراح يقبل وجنتي فطوم كمن أرقه الوجد ثم قال
” قولي لي بالله عليك، كيف تمكنت من احتجاز نجوم السماء في هاتين العينين؟ أم أنك الفضاء؟ انظري يا أماني لهذا الجمال وسبحي الخالق المعبود”
” وأنا الذي ظننت بأنك نسيت الغزل. لا زلت بارعًا فيه أيها العجوز” قالتها أمي وهي تضحك.
رد أبي وهو يشير إليها ” ماذا نقول في النساء يا بني! آه يا أماني لو أنك تعلمين . أقضي معظم وقتي بين الكتب بحثًا عن جملةٍ أو حتى كلمةٍ لوصفك فأجدكِ أكبر من الوصف. توصيفك حِكر على الملائكةِ والأطهار.
أما أنا فمجرد عبدالرزاق ابتلاكِ الله بحبه”
” ما أجمل البلاء” ردت والدتي على استحياء.
بعد أن فرغوا من غزلهم الوقور،أمرني والدي بحمل أكياس المؤونة المتكومة في منتصف الصالة إلى المطبخ.
كانت أعدادها سببًا كافيًا لإثارة قلقي . فمواردنا المالية أقل من احتمال هذا العدد من الأكياس إلا إذا!
شكرت والدي على تموين المنزل بما ينقصه فأجاب ضاحكًا
” اشكر أمك ياولد”
أمي التي انسحبت إلى المطبخ فور سماعها لرد والدي.
سرت رعدة باردةٌ في ظهري وشعرت برأسي يفور مبخرًا مانزّ منه من عرقٍ وصارت رؤيتي معتمة.
هل خانت الأميرة العهد؟
تصنّعت والدتي الانشغال بتقليب حساء العدس الموضوع على النار ورفعت صوت المذياعِ لوأد النقاش قبل ولادته.
كنت أُحضر أكياس المؤونةِ على مهلٍ إنتظارًا للآية الأخيرة من سورة المُلك.
وما إن انتهى الشيخ عبد الباسط منها ، وجدتني أغلق المذياع متعجلًا لأسال والدتي وأنا أهمس حانقًا ” بعتهِ لمن؟”
“ أحضر زوج طماطم من الكيس” ردت دون أن تنظر.
“أمي! ألم نتفق؟” صرخت في يأس.
“سيزورنا خالك اليوم. ستصل حافلته بعد صلاة العشاء. جاء هذه المرة من شرق البلاد ويقول بأنه سيبيت عندنا ليومين.
كالعادة سيأخذ غرفتك وأنا سأقوم بتجهيز الصالة لك . ستكون فرصتك الذهبية لمشاهدة مبارياتك دون منغص .أليس ذلك جميلًا؟ مالك لا تبدو فرحًا؟” مسحت على خدي قبل أن تدير ظهرها مجددًا لمقابلة الحساء.
“ألم أطلب منكِ الإنتظار ليومين فقط؟ يومان فقط. مالذي تفعلينه يا أمي؟”
لم ترد.
عدت للحديث مجددًا” أخبريني يا أمي بعتيه لمن؟ لماذا لا تردين؟أي امرأةٍ هي التي تبيع ذكرياتها مقابل زوجٍ من الطماطم؟”
” أنا ياوضاح. أنا التي بعت ذكرياتي مقابل زوجٍ من الطماطم ليكون حساء والدك المفضل مسبوكًا” قالتها بانفعال.
استدارت نحوي ثم أكملت بذات الغضب متسلحةً بالمغرفة الدبقة الموجهةِ بين عيني
” ما فائدة الذكريات إن كنا نسترجعها ونحن جياع؟ مرضى تفوح منا عفونة العجز؟ها؟
قل لي مالمهم؟ أن تتوفر عقاقير والدك وأختك كي يستطيعوا النوم دون إحساسٍ بآلامهم أو أن يبقى عقدٌ يذكرني بماضٍ لا أمل لعودته؟…. يبدوا وأنك لا تفهم.
أنا أم يا بني . والأم لا تتخلى عن صغارها مهما علت التكلفة”
لم أعد قادرًا على الوقوف وأنا أشهد تبعات فشلي . جثوت على ركبتي وتلقفت يديها راجيًا أن تعطيني فرصةً أخيرةً أتغلب فيها على خيبتي.
” أمي حبيبتي اسألك بالله أن تدليني على المكان”
زفرت والدتي مطولًا وهي تجول ببصرها في سقف المطبخ إخفاءًا لدمعها.
قالت ” في جيب الحقيبة الخارجي ستجد إيصال البيع. أحذرك يا وضاح من ارتكاب أية حماقة”
قمت من فوري وقبلتها على جبينها تأكيدًا على إلتزامي بالتعليمات . ثم انطلقت مسرعًا ولا يدور في رأسي إلا شيءٌ واحدٌ فقط
” لن يبيت العقد خارج المنزل هذه الليلة”
وقبل أن أصل إلى الباب ناداني والدي ثم ناولني صندوقًا بدا وأنه لحذاء وقال
” خذ يا ولد. ابتعت لك هذا الحذاء الجديد. أديداس درجة أولى لا تستطيع التفريق بينه وبين الحقيقي.
هذا ما قاله لي البائع . لم أعرف مقاسك الفعلي فقدرت بأنه أكبر من مقاس قدمي بنمرةٍ على حسب تخميني. ملبوس العافية ”
أوفى عبدالرزاق خضر بوعده كعادته . قبلت يده شاكرًا وارتديت نعلي الجديد ثم هرعت أركض صوب الهدف القادم.
يتبع
المرة الاولى لقراتي لها ظلمتها وماوفيتها حقها لكن المرة الثانية كل حرف فيها ينبض حياة
كتابتك بها مزيج معقد.. ممتع.. ومتعب.. سأعاود القراءة…
شكرًا على مرورك ، مرحبٌ بزيارتك دائمًا
شكرًا دائمًا
أحتاج لثلاثة فناجين من القهوة للتركيز في نصك القصصي… سأعود لأكمل بقية القصص.
أهلا وسهلا دائما