صرت من فتوات السيد. واكتوى والدي بنار الصدمة.
وكغيمةٍ حبلى تأخر موعد وضعها انفجر الماء ساخنًا من عينيه بعد طردي من المنزل. مسحت والدتي على شعري للمرة الأخيرة قبل أن توصد الباب في وجهي إلى الأبد.
فوضعت يدي على رأسي استبقاءً للبركةِ وودعت زخارف الباب وثقوبه للمرة الأخيرة.
أصابني حزن والدي بالكدرِ غير أني لم أكن نادمًا على خيانةِ نضاله الطويل.
رافضًا أن أبقى عالةً عليه وأنا أطالع إزدهار حيوات أصدقائي بصمت عاجزٍِ أو بعضٍ من فرحٍ مصطنع. حتى ولو على حسابِ المبادئ التي تربيت عليها.
” أخلص في كل عملٍ تعمله في حياتك . كن لين الخُلق مع الناس . أحسن معاملتهم.
تبسم فابتسامتك صدقةٌ إن كنت لا تعلم. وإن خُيرت يومًا بين نفسٍ ومال. فاركن إلى الأنفس. فالناس تبقى والمال زائل. ولا تتعلق إلا بحبال خالقك.
واحذر مسالك الشيطانِ و مصائد السيد”
لم أكن لأستوعب يومًا سر هذا العداء الأبدي بين السيد ووالدي .أقوى من صراع الخير والشر، أكثر سرمديةً من معضلةِ البيضةِ والدجاجة وأعقد من عمل سحرٍ أسود عقده مشعوذٌ أفريقيٌ معمّر.
والدي الذي يستعيذ بالله من السيدِ أكثر من استعاذته من الشيطان الرجيم، ويبصق عن يساره ثلاثًا في كل مرةٍ يجيء فيها على ذكره .
حكى لي والدي غير مرةٍ عن طريقةِ اقتحامِ السيد للحي.
كيف اشترى بيت الجاوي من ورثته المتناحرين في وسط السوق. وكيف راح الناس بعدها يبيعونه أملاكهم وقطعًا من أرواحهم بأبخس الأثمانِ طمعًا في سيولةٍ آنية.
” والله إنهم حفنةُ من أغبياء هه ،لم يكونوا ليروا أبعد من أرنبات أنوفهم. لكني لا أقول إلا رزق الهبل على المجانين”
يضحك والدي بحسرةٍ قبل أن يكمل مبررًا بيعهم ” لكن والشهادة لله يا ولدي ، لم يكن لعاقلٍ أن يلومهم على بيعهم. كان السوق راكدًا و ازدادت تكلفة المعيشة إلى حدٍ لا يطاق.
تسابق الناس في المكاثرة بالأولاد والزينةِ في سنوات الرخاء.
و وصمتهم سنوات الشدة بملامح بالجوع والبؤس.
حتى لأنك تجد الرجل يقف أمام دكانه بأبهى زينته ومعدته خاويةٌ تلوك عصارتها.
ولما لاح لهم سراب الفرجِ لهثوا نحوه دون تفكير. وغلف لهم السيد هوان أمرهم بالمكسب الفوري”
يصمت ، ينفث على يساره ثلاثًا ثم يكمل مزهوًا
” لم يصمد في وسط هذا البيع الأعمى إلا ثلاثة. –يرفع أصابع يمينه ثم يثنيها مع كل إسمٍ يذكره – الحاج سمير غشيته رحمات الله ، وعباس مخلوف والعبد الفقير إلى الله – يشير بسبابته إلى وجهه مبتسمًا– .
قاومنا إغراءاته المخادعةَ وترهيب زبانيته ، ومضايقاته المتتالية.
كنا شاهدين على تهدم دكاكين السوق القديمةِ واندثار واجهاتها الزجاجيةِ لتقوم واجهات الكلادينج الكئيبة مكانها.
بقيت دكاكيننا الثلاثة المعمرةُ صامدةً في وجه هذا التغيير الممجوج.
كان وكيله عثمان يأمر عمال البناءِ بوضعِ حاوياتِ مخلفات البناء أمام الواجهات المعمرة ، وكلما أشتكينا تعذر بضيقِ المكان.
كلادينج؟ أي بدعةٍ قذرةٍ هذه !
صار السوق شبيهًا بحمامٍ عموميٍ ضخمٍ لا يصلح إلا لإفراغ المثانات.”
يزفر غاضبًا ” لم يكتفي بذلك بل قام بتغيير إسم السوق من سوق البابِ الغربي إلى مجمع المستقبل.
مجمع المستقبل! اللهم أظلم عليه مستقبله .
اللهم عليك بمن بدل نواميس السوق. هذا طمسٌ للهوية وتحريفٌ للتاريخ”
اضطر العم عثمان مخلوف على بيع دكانه للسيد بعد موت الحاج سمير وتقديره إلى كبر سنه على مقاومةٍ معلومةِ النهاية. أما والدي فقد بقي في عناده إلى أن أُجبِر على البيع بأمرٍ قضائيٍ بحجةِ تطوير السوق.
رفض بعدها أن يعود للعمل كباقي التجار واكتفى بالبقاء في المنزل وإكالةِ اللعنات للسيد بعد كل تسبيحة.
*****
لا صوت يعلو على صوت فتوات السيد.
هم يفرضون المكوس بإسم السيد ، يجبونها بإسمه . بأمرهم يبدأ نشاط السوق وبه ينتهي. لا تغفل أبصارهم المحتدّة عن أي شاردة.
وإن حصل! أبلغهم أحد التجار بالوقيعة.
كتمان السر موت ، إفشاءه حياة. هذا هو الدستور.
هكذا يستتب الأمن في السوق.
والأمن هو الذريعة الرئيسية التي قام عليها جهاز الفتوات وصيّره جاثومًا على صدور التجار.
ينقسم السوق إلى خمسةِ شوارع تبدأ من وسط الحي و تنتهي إلى بيت السيد . ولكل شارعٍ نشاطٌ معينٌ يحدد طبيعة الدكاكين المتراصةِ على جانبيه .
يقف على رأسِ كل شارعٍ فتوةٌ يقبض على أنفاسه . وتحت إمرةِ كل فتوةٍ عدد من الحرس يبطشون بأمره يلقبونهم بالغربان.
ويأتمر الفتوات الخمسةُ بأمر النمرود الأكبر ، ساجد عبد الغفور رئيس الفتوات وشِمال السيد السالبة للحياة.
لم أكن لأجرؤ على خيانةِ العهد لولا الحاجة. حاجة منزلنا لعودةِ ابتسامةِ فاطمة التي بددها المرض. وقضت تكاليف علاجها على مدخراتنا المالية.
كنت قد عزمت أمري على مخالفةِ تعاليم والدي بعد أن بذلت جهدًا مضنيًا لإقناع والدتي على العدول عن بيع عقد زفافها.
الحُلية الذهبية الأخيرةُ في درج مصوغاتها الخاوي الذي كان مثارً لإعجابِ جاراتنا وموقدًا لنار غيرتهم.
لكنها كانت مستعدةً لإزهاقِ روحها لترى ابتسامة ابنتها من جديد.
لذا قررت مصافحة الشيطانِ واختيار المالِ في اختبار المال والأنفسِ في سبيل استعادةِ فطومة ولتُبقي أمي على آخر ذكرى ترف.
أما والدي فقد اختار الهروب من عجزه بالإختباء في مكتبته الصغيرةِ بحجةِ القراءةِ والتأمل. ولم نعد نراه إلا في ساعة العشاء ونحن نزدرد طعامنا في صمتٍ مطبق.
وإن راقه المزاج يومًا راح يحكي لنا عن آخر نصٍ أثار دهشته.
” قرأت اليوم مقالةً ممتعةً تتحدث عن أثرِ الفراشة.
إسم مثير صح؟ تشير هذه النظريةُ إلى أن أي حدثٍ كبيرٍ قد يعود في أصله إلى حدثٍ صغيرٍ بسيطٍ جدًا.
لكن أثر هذا الحدث الصغير البسيط جدًا من الممكن أن يؤدي إلى العديد من الأحداث المتتابعةِ التي توصلنا إلى الحدث الكبير جدًا.
مثالهم في ذلك أن رفرفة جناح فراشةٍ صغيرةٍ وادعةٍ في الصين . قد يؤدي إلى فيضاناتٍ وأعاصير هادرةٍ في أقاصي أمريكا وأوروبا وأفريقيا.
هاه لم تفهموا! طيب سأبسطها لكم “
يرتشف حسائه قبل أن يكمل
” كيف قامت حرب البسوس!
هاه؟ لا تعرفون حرب البسوس؟ الزير سالم ؟ مسلسل سلوم حداد! أوه لقد فاتكم الكثير ، طيب لأكمل .
بدأت حرب البسوس هذه بسبب ناقة ، تخيلوا! بسبب ناقةٍ كانت معقولةً في مراحها . فمر عليها قطيع إبلٍ لسيدٍ معتدٍ بنفسه يقال له كُليب.
المهم أن هذه الناقةُ فرحت بمرور بني جنسها فقامت من مكانها ونازعت عقالها حتى تمكنت منه ومزقته واختلطت بإبل كليب.
ولما رأها كليبٌ تمتزج بقطيعه أنكرها وأخذته عزته بنفسه فقتلها .
استنفر مالكها بقومه فأغاثه رجلٌ منهم. وأغاروا على كُليبٍ ثم أجهزوا عليه.
تواصل بعدها جزّ الرؤوس وبقر البطونِ لأربعين عامًأ.
لو أحكم مالكها شد عقالها ، ما قامت الحرب.
ولو تخلى كليبٌ عن كبره وترك الدابة في حالِ سبيلها لما قُتِل إنتقامًا لناقة.
بكل بساطة يا ابنائي هذا هو أثر الفراشة “
كان يعزفُ عن سؤالنا عن أحوالنا في كل مرةٍ خشية احساسه بعجزه. وكنا نحن نتصنع الإهتمام بحكاياته لنشعره على بقاء قدرته على العطاء .
والدي المسكين . لم يكن ليدرك بأن لعقدِ زفافٍ ذهبيٍ أهداه لزوجته قبل سبعةٍ وعشرين عامًا أثر فراشةٍ مضعضعٍ لأركان بيته.
استمر .. ننتظر المزيد من الابداع
زمان عن الابداع دا 👏🏽
رائعة كروعتك لا تتأخر علينا مرة أخرى نحن في الإنتظار