خامرته السكينة بعد إغلاقه للمزلاج وابتعاده عن أعين الحي .
استند على الباب ، ملأ رئتيه بالهواء على اتساعهما قبل أن تتسرب أنسامه منهن بروية.
وأغمض عينيه عله يلقى سكونًا في الظلام ثم نشج باكيًا بعد أن شعر بضعفٍ لم يغالبه من قبل .
أحس بأن الكون يتآمر عليه .
يسلبه أحلامه ويتلذذ في تصييره نكتةً ممجوجةً يتداولها الناس ثم يدفنها العدم .
توجه للبراد بحثًا عن شيءٍ يسكن ألم شفتهِ فلم يجد إلا قارورة شطةٍ منسية ، فجذبها إليه مكرهًا وألصقها بجرحه الآخذ في الإنتفاخ . واستعان بذاكرته لتشيت تركيزه عن رائحة الفلفل النفاذة التي تخترق أنفه رغمًا عنه وراح يتذكر دينا .
شعرها الأسود اللامع الظاهر من تحت الغلالة الأرجوانية.
جنتاها الواسعتان ، أنفها الدقيق حاد الأرنبةِ المنتهي بحسنةِ تعتلي شفتيها المكتنزتين .
هي بيضاء
بيضاء كالحليب !
بيضاء للدرجةِ التي يبدو فيها العالم داكنًا في حضرتها. ولم يُقدّر للعجوز ملامسةُ حُسنٍ كحسنها من قبل .
تذكر كوب الشاي فراح يغبط نفسه عليه ويبتسم، و بدا في لحظة جاحدًا أطنان الشاي التي أعدت له من عبدالرزاق الأصنج.
ولما حضرت صورة مهاً لذاكرته مجددًا أعادت له شعوره بالوجع .
هاج أنفه بعد انتشار صنة بقعة البولِ في بنطاله مصحوبةً برائحة الفلفل النفاذةِ . فلم يعد له طاقةٌ تحتمل ما هو فيه فأفرغ غضبه بصرخةٍ من أعماقهِ وألقى بقارورة الشطة المنسيةِ على الجدار .
دلّى الإبريق في البرميل الأزرق الذي يتكئ على جدار حمامه .
أخرجه و أفرغه على رأسه دون أن ينزع ملابسه ثم أعاد الكرة مجددًا .
اختلطت دموعه بالماءِ بعد أن شاهد انعكاسه البائس في المرآةِ ورأى شخصًا آخر غير الذي اعتاد رؤيته .
بدا واهناً عُمّي على بصيرته مُقادًا لأهواء غيره .
خرج بعدها من بيت الشيطانِ والقى بجسده المبتلِْ على الأرض .
شعر بأشباح ظلامه تتسرب إليه من تحت الأثاث بعد أن كان قد حبسها منذ أيامٍ ليجرب طعم العيش دونها . ها هي تفك قيدها وتزحف إليه في عجل .
مر الوقت ببطء !
رتب الصالة،كنس السجاد، جمع قراطيس الملابس الجديدةِ وكومها على غطاء برميل النفايات الممتلئ .
اكتشف وجود شمعةٍ قديمةٍ تنام تحت الأريكةِ منذ آخر مناسبةٍ سعيدةٍ أقيمت في منزله قبل ثلاثةِ أعوام.
أشعل الشمعة!
أطفأ الأنوار ، استذكر أغنية عيد الميلاد.
ذابت الشمعة!
مرت الدمعة الساخنةُ على إصبعه مُخلفةً شيئًا من ألمٍ لذيذ.
إستعذب الألم
لماذا لا يكون ألمنا إختياريًا؟
لماذا نُجّر إليه جرًا ونُحاط بزبانيته الجبارين في كل مرةٍ كيما نهرب ؟
هكذا ساءل نفسه .
أغمض عينيه .
تمنى أمنيةً ثم زم شفتيه ونفثها لتطفئ الشعلة وتتصاعد مع دخانها علّها تصل.
هل ستصل ؟
قُرِع الجرس فأحس بالإرتباك . فهو لا ينتظر أي زائرٍ في أي وقتٍ قريبٍ ولم يُقرع على جرس بيته من أمدٍ بعيد.
عاد لفطرته وارتدى ثوبه الرملي بخفةٍ وتوجه ناحية البابِ بهرولةٍ أشبه بالإعادةِ البطيئة .حتى إذا فتحه اندفع عامرٌ للداخلِ بوجهٍ جامدٍ لم يعهده من قبل وراح يفحص العمَ بدقة .
يطوف حول جسده ، يقرب وجهه من وجهه بشكلٍ مربك، ثم يلمس كوعه بإصبعه، يلمس فخذه الخلفي بإصبعه، يربت على ركبته السمينةِ براحة يدهِ إلى أن استثار العم الذي صرخ بانفعال
” خير اللهم اجعله خير! اشتهيتني على كِبر؟”
” هل أنت بخير؟” تساءل عامرٌ بنبرةٍ جامدة.
” أهكذا يطمئن الناس؟”
” إذا كتم أحبابهم عنهم شيئًا”
صمت لبرهة ثم أضاف ” إلى متى يا عم ؟”
” مالذي تريده؟ ”
” هل تعاني من شيء؟ هل تشعر بضيق من شيء؟ أخبرني بالله عليك . كل يومٍ ألقاك في قصةٍ جديدة” قالها دون أن يزحزح بصره عن العم .
” والقصد؟” قالها موسى بارتباك
” مالذي حصل لك اليوم؟ أصبحت حديث القهوة . تُتناقل سيرتك على ألسنة
التافهين، يقولون بأنك تتداعى! تتحرش بالنساءِ، وتتعارك مع أصدقائك، الكل يحدثني عنك إلا أنت يا رجل!”
” الملاعين! حشرهم الله في الدرك الأسفل! هذا كذبٌ وافتراء” صرخ البدين غاضبًا .
” وهل أستطيع معرفة الحقيقة ؟”
” أنا معجبٌ بفتاةٍ بنصف عمري، وبدأت بالتغيير من نفسي لألفت انتباهها ،
غيرت من هندامي بدايةً ثم سرحت شعري ، والآن أظن بأني سأختار فيروز لتكون الصوت الرسمي لما أشعر به ولا يسعفني تعبيري على البوح به.
تعاركت مع صديق عمري وأهنته لأنه نظر إليها بطريقةٍ شهوانية. أصبحت أرى فيها حياتي المستحيلة، تلك الحياة التي نحلم برؤيتها خلف البحر ونهز رأسنا مبتسمين ونحن نصرخ في أنفسنا بعزم ( سنصل) ثم نعود للانصهار في واقعنا الرتيب دون أي تغيير، هل هذا هو الحب ياولدي ؟ أظن بأني أحبها هل قلت لك بأنها صافحتني؟ ”
ود العم لو أنه يملك شجاعةً كافيةً تمكنه من البوحِ له بما يعتمل في صدره والنطقِ بكل ما كان يفكر فيه لكنه استطرد في الدفاع عن نفسه قائلًا
” وهل تصدق بأن عمك موسى يفعل كل ما قيل ياقليل المروءة؟ ياخسارة العشرة ”
” هذا ما يصيبني بالجنون ، عم موسى الذي أعرفه مختلفٌ تمامًا عن حكاياتهم ”
عاد لصمته مجددًا مفكرًا ثم نطقَ جازمًا “هيا يا عم ستذهب معي الان”
” إلى أين ؟ أنا مرتاح هنا ”
” هيا يا عم البس نعليك ، سنثبت كذبهم ”
” ياولدي عامر ، لو أن كل كلبٍ عوى ألقمته حجرًا لأصبح الصخر مثقالًا بدينار . وأنا أولى بالدينار منهم . دعك مني ومنهم بالله عليك ؟ ” قالها مبتسمًا
” دعك من حِكم السابقين ياعم وتعال” قالها منفعلًا
“وكيف ستثبت ذلك يابطل؟”
“سترى بنفسك “
تلك الحياة التي نحلم برؤيتها خلف البحر ونهز رأسنا مبتسمين ونحن نصرخ في أنفسنا بعزم ( سنصل) ثم نعود للانصهار في واقعنا الرتيب دون أي تغيير
👍🏽👏🏽