لو أنه استخدم فطنته إلى آخر حدودها ممزوجة بكل لمحاتِ الدهاء التي انتابته طيلة عمره لما انتهى إلى ما صار إليه .
ولاكتفى بنظراتٍ عابرةٍ كلما رن هاتفه لينقل إليه ما ينقص مطبخها من مكعبات مرق الدجاجِ أو قنينة زيت زيتون.
قرع الجرس
فتحت الباب، صاحت في ذهول من صورته المتهالكة .
ودعته للدخول فاعتذر ملوحًا بيدهِ الراجفةِ دون أن ينطق بشيء ، ثم غرس ذات اليد في جيبه وأخرج منه حفنة مبتلةً من الريالات.
كان مستندًا على إطار البابِ بكتفه وهو يلهث ، وقميصه الخربزي ملتصقٌ بجسده مظهرًا إنحنائته وهالاتِ حلماته.
ازداد إصرارها عليه بطلب الدخولِ للراحةِ ودعت ضيفتها مها لمشاركتها في ذلك.
دخل إلى المجلس وارتمى على الأريكة.
وما إن رفع رأسه حتى ناولته دينا كأسًا باردًا من الماءِ فاجترعه دفعةً واحدة.
ولما تمكن من دوزنةِ حباله الصوتيةُ قال “ أنا آسفٌ حقًا على كل ما حصل.
لكني لم أجد أحدًا من الأطفالِ لإرسالهِ فآثرت القيام بذلك بنفسي. ههه ولسوء حظي وجدت المصعد ممتلأً فصعدت على السلالم التي صيرتني إلى ما أنا عليه الآن “
” لا داعي لذلك يا عم ، قهوتك إيه؟ ” ردت دينا
” لا لا .. لا تتتعبي نفسكِ سأمضي في طريقي الآن”
و هم بالوقوف ليخرج قبل أن تمنعه من جديد
” هذا لا يصح ياعم تزور بيتنا وترفض ضيافتنا؟ قهوتك إيه؟”
صمت العمُ قليلًا وهو يطالع الأرض متظاهراً بالخجل قبل أن ينطق
” شاي سادة”
ضحكت دينا وهي تومأ برأسها إيجابًا ثم دلفت إلى الداخل لإعداد ما يشتهيه.
هدأ رأسه وعادت حواسه إلى طبيعتها فاستطاع تمييز ماحوله .
صوت فيروز ينساب بنعومةٍ مذكرًا محبوبها بأنقى لحظاتِ العمر
ذاكرٌ يا ترى سورنا الأخضر حيث كانت تفئ الطيور … يومها حبنا كان في حينا قصة الوردِ لحن الزهور
تضوع في المكانِ رائحةُ قهوةٍ لم يطل أمد غليها تمتزجُ بعطرٍ أنثويٍ يُجيد التلاعب بالمشاعر .
على الجانب القصي من الحائط المقابلِ. تنتصب منضدةٌ بجانب الباب المفضي إلى داخل المنزلِ تحمل على سطحها الزجاجي أباجورةٌ يصعب تحديد عمرها من فرط الإهتمامِ الظاهر عليها.
يجاورها جهازٌ إلكترونيٌ صغيرٌ يتوسط سماعتين تفوقانه حجمًا ينبعث صوتُ فيروزٍ من خلالها.
لوحةٌ لقبة الصخرةِ مرسومةٌ على مساحةٍ قماشيةٍ تأطرت بألواحٍ خشبية بسيطة الزخارف . يعاضدها مفتاحٌ حديديٌ قديمٌ تحكي زواياه المتآكلةُ عن عقودٍ من المعاناةِ وينبئ صموده عن أملٍ بنصرٍ قريب.
عُلِق على الحائطِ بسلسلةٍ ذهبيةٍ تليق بتاريخه من التجويف الداخلي الذي يعتليه وتنتهي السلسلةُ بمسمارٍ مال من ثقل الذكريات .
أحس بنظرات مها تخترقه سابرةً أغواره منقبةً عن دوافعه وأمانيه. وكلما حاول الفكاك منها والهروب من سطوتها وجد نفسه أسيرًا في محيطها خاضعًا لأمرها.
افترت شفتاها الغليظتين عن ابتسامةٍ مصطنعةٍ ثم بادرته بالحديث
” وكيف تشعر الآن يا عم؟”
ليرد ” بخير الحمدلله”
لم تتزحزح عيناها عن التنقيب بداخله طيلة فترة الركود التي تلت سؤالها.
أخرجت علبة السجائر من حقيبتها .
إستلّت واحدة ودّلت بعقِب أخرى من العلبة ثم ناولته إياها فرفض بلطف.
أشعلت لفافتها بعد أكثر من محاولةٍ فاشلةٍ لإيقاد القداحة ودنّت منفضة السجائر على المنضدة القريبةِ منها ثم عادت للتحديق في تعاريجه مجددًا .
أحس موسى بالوقت يمر على ظهر سلحفاةٍ عرجاء . وكأنه في حضرةِ ضابط تحقيقٍ لجريمةِ قتلٍ وتنكيلٍ لا في حضرة واحدةٍ بناتِ الحي اللاتي كبرنّ على مرأىً منه.
لكن مها شيءٌ مختلف .
فتاةٌ مصنوعةٌ من قماشةٍ تختلف عن كل القماشاتِ الموجودةِ في المكان . وكأنها حيكت على يد ترزيٍ متفردٍ بأسلوبه.
أخذ مسار حياتها منحىً مغايرًا صيرها لما هي عليه الآن حتى خشيها الكل ولم يجيدوا سوى نسج الحكاياتِ عنها ساعة غيابها.
لفتت نهاية الوشمِ البادي من تحت ياقةِ قميصها الواسعةِ انتباهه . فأمعن النظر في تفاصيله وسرح بخياله لإكمال بقية الرسم إلى أن داهمته بصوتها المبحوح مجددًا بعد نفثها لآخر أنفاسِ اللفافة
” الإفرنجي يليق بك ”
” ها ؟” رد بصوتٍ عالٍ يفضح تلصصه .
” أقصد هندامك .. يبدو أنك اشتقت لأيام الشقاوة “ اتبعتها بقهقهةٍ مجلجلة .
تبسم العجوز والإحراج بادٍ على وجهه قبل أن يجيب
” أي شقاوةٍ هذه يا ابنتي ، فقط أحببت أن أغير من هندامي قليلًا طمعًا في تغيير مزاجي ”
لوحت بكفها ضاحكةً وهي تقول ” لا داعي للتبرير يا عم ، لقد كنت أمازحك وأثني على مظهرك الجديد لا أكثر رغم أن جرح شفتكِ يدل على شقاوتك ”
هز رأسه تقديرًا لإطرائها المبطنِ بسخرية تحاربه لإظهار نفسها. ودس شفته العليا تحت أختها لاعنًا اللحظة التي قرر فيها التغيير من نفسه.
” ومتى بدأت بتوصيل طلبات المنازل يا عم ؟ ” قالتها وهي تحملق فيه كنمرٍ ينتظر الانقضاض على فريسته .
ابتلع ريقه بصعوبةٍ بعد أن أحس بانتزاع البراءة عن سؤالها وكأنها تقرأ دواخله وتفهمها جيدًا . تعرف كل تفاصيلِ مخططاته كاشفةً عن كل ثغراتها كجنرالٍ مخضرم.
” منذ مدةٍ قصيرة، لأنه وكما تعلمين لم أعد البقال الوحيد في الحارة و إقبال منافسٌ عنيد لا يتوانى عن فعل أي شيءٍ يمكّنه من السيطرةِ على السوق ، ولهذا اتخذت هذا القرار “
قالها متعجبًا من مقدرته على إرتجال إجابةٍ كهذه ليفر بالحقيقةِ ويحتفظ بها لنفسه .
ثم أضاف ” على التاجر فينا أن يأتي بكل الحلول الممكنةِ للحفاظِ على رزقه خصوصًا إن كان ينافس شخصًا جشعًا يهتم باحتكار السوقِ لنفسه أكثر من اهتمامه بتحقيق الربح ”
” والنيو لوك جزءٌ من هذه الخطة ؟ “
قالتها بلكنةٍ ساخرةٍ أثارت حفيظة العمِ الذي صاح مدافعًا عن نفسه
” لطفك يا الله! مالكم ومالي؟ دعوني ألبس ما شئت .
أغير من هيئتي كما أشتهي . حتى ولو مشيتُ عاريًا في الطرقات .
ألا تملون من هذا السؤال؟ لا يوجد سببٌ لمظهري الجديد! لا يوجد سبب سوى أني أريد أن أحيا حياتي ككل الناس ، هل أنا مذنب ؟ “
” واو .. هدء من روعك يا عم كنت أسأل فقط “
صمتت قليلًا قبل أن تضيف ” أنا آسفة”
دخلت دينا تحمل طبق الشاي وكأنها رسولٌ من السماءِ بُعث لمهمة إنقاذه.
وضعت الطبق أمامه فشكرها بود .
وأخرج علبة صغيرةً تنتهي إحدى زواياها بزرٍ بحجم بصمة الإصبع . قربها من الفنجان حتى صارت في منتصف قطره ، داس على الزرِ لتسقط قطعتانِ صغيرتانِ من السكر الصناعي وتذوب في الشاي.
“ يبدو لي بأن حديثًا مسليًا دار بينكم أثناء غيابي ” قالتها دينا بعد أن لاحظت نفورًا باديًا على محيا ضيفيها .
ثم أضافت باسمةً وهي تنظر لمها ” هل كنتِ تحدثينه عن النظرية ؟ ”
“ أي نظرية ؟ ” رد البدين بعد الرشفة الأولى .
لترد معشوقته “ لمها نظرية غريبةٌ كانت تحدثني عنها قبل مجيئك تتعلق بالروح ”
” الله الله . وما هي هذه النظرية المفصلية في التاريخ البشري؟ ” تساءل العم مبتسمًا .
” تحكي أم أحكي أنا؟” تساءلت دينا ، فأشارت إليها مها بأن تنوب عنها بالحديث عن النظرية .
تنحنحت دينا ثم قالت” نظرية كونفدرالية الأرواح ”
” كونفدرالية إيش؟ ” رد العم ساخرًا
” كونفدرالية الأرواح” قالتها مها هذه المرة .
رد العم ضاحكًا ” وفي أية قارة تقع ؟ ”
لتشاركه دينا الضحك . ما أجمل ابتسامتها
أحست مها بضعف موقفها أمام العم للمرةِ الأولى منذ بداية الإستقبال .
وألقت على رفيقتها بنظرةٍ معاتبة ، قبل أن تبدأ بالشرح للعجوز الذي بدى متأهبًا لرد الصاعِ والانتقام لنفسه.
” تقول النظرية إن في داخل كل فردٍ منا عدة أرواح متحدة فيما بينها تُكون معًا مـ…”
” استغفر الله استغفر الله هذا كفر! ” قاطعها العم وهو يهز رأسه كبندوْل .
ازداد حنق مها .
أبعدت خصلاتها التي تغطي عينيها بانفعال ثم قالت
” لنسمها شخصيات لا أرواح طيب؟ .. المهم أن في كل شخص عدة شخصيات متحدة تخضع لسلطة شخصية واحدة تحكمها تسمى بالأنا العليا.
وبين كل فترةٍ وأخرى تضمحل هذه الأنا العليا لتأتي أنا جديدة وشابة لتأخذ مكانها في دورة الأنا المسيطرة .
وهذا التغير في سلطة الأرواح يكون تدريجيًا أو بانقلابٍ سريع إلى أن تأتي روحٌ جديدةٌ أخرى لتطيح بحكومة سابقتها وهكذا . هذا ما يفسر تغير شخصياتنا من فترةٍ لأخرى ” زفرت طويلًا بعد أن انتهت من الشرح
” وما قولك فيمن لم تتغير الأنا العليا الخاصةُ به منذ ولادته إلى أن يموت؟” سألت دينا بإهتمام .
صمتت مها للحظاتٍ تبحث عن إجابة.
شعرت بتسرعها في البوح بأفكارٍ لم تتعمق فيها كثيرًا ثم قالت “ ربما كانت الأرواح . عفوًا الشخصيات الأخرى- قالتها وهي ترمق البدين بنظرة متقززة– أضعف بكثيرٍ من الأنا المسيطر .
أو من الممكن أن يكون التشابه كبيرًا بين الشخصياتِ المتحدةِ للدرجةِ التي لا تُظهر تغيرًا بارزًا في تصرفات الجسد المسكون بها”
توجه العم بكلامه إلى مضيفته متسائلًا وهو يشير بإصبعه ناحية مها ” وهل توافقينها على هذا الرأي ؟ ”
” قد أوافقها في المبدأ لكني اختلف معها في الفكرة قليلًا ، عموماً نظريتها مثيرةٌ للإهتمام ” ردت دينا
” هذا حرام هذا لا يجوز .
يقول الله في كتابه العزيز ( ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) والأخت هنا تُنظّر في غيبياتٍ لا تعلم عنها شيئًا “ قالها بذات النبرة الساخرةِ التي يجيدها مزهوًا بانتصاره المعنوي .
ردت مها وهي تشعل سيجارتها بسخط ” لا تخرج كلامي عن سياقه يا عم … ثم إني لم أتطرق إلى الإيمانيات أبداً ” وأشاحت بوجهها بعيدًا
ليسألها ” ومن أين أتيت بهذه النظرية ؟ ها ؟ ”
تجاهلته مها وانشغلت بسيجارتها .
وحينما لم يجد تجاوبًا منها نقل ببصره ناحية مضيفته مستفهمًا لتجيبه ” قرأتّها في رواية عمو”
” اها .. هذا ما يجنيه المرء حينما يقرأ الكتب دون أن يقف على أساسٍ ثقافيٍ أو علمي، انتبهي لنفسك يا سيدة الأرواح”
ابتسمت مها ببرودٍ فتح الباب لسيادةِ الصمت من جديد.
وبعد أن انتهى موسى من شايه طلب من مضيفته الإذن بالرحيلِ كي لا يتأخر عن دكانه وشكرها على حسن ضيافتها .
” شرفتني بحضورك يا عم ” ومدت يدها لمصافحته . فاكتسى بالدهشةِ وأصابه الجمود .
فلم يحصل له أن لامس امرأة غير أمه من قبل. ثم يده الشحيمةَ مصافحًا.
وحينما وصل إلى الباب سمع صوت مها تناديه لمرافقته للخروج.
اعتذرت لدينا كثيرًا على عدم استطاعتها البقاء أكثر رغم استمتاعها بالوقتِ لإقترابِ موعد عملها. ثم لبست عبائتها استعدادًا للمغادرة .
في انتظار ماتبقى 😍