” أترقصين؟
تحبين الرقص ؟ لا مشكلة هاتي يدك .
سأعلمك الخطوات الأساسية. صحيحٌ أني كبيرٌ سناً ووزناً. لكني أملك مرونة عاليةًعندما يتعلق الأمر بالرقص وكأن جنياً يتلبسني .
ها؟ ههه أعرف بأن الموضوع غريبٌ بعض الشيء . لكني أعشق الرقص ، السالسا تحديداً .
أحمد الله على نعمة التقنية. لأني صرت أتابع تدريبات السالسا على اليوتيوب . وهاتفي قديمٌ بعض الشيء، إلا أنه يؤدي الغرض المرجو منه بكل كفاءة.
هيا دعي الخجل. وقفي لتشاركيني هذا الإحتفاء بالجسد والروح معاً “
كان هذا الحوار يدور في رأس موسى وهو جالسٌ خلف منضدته وسط الدكان يشاهد فيديوهات رقص السالسا .
ولا يدري كيف وقع عليها وخطر على باله تعلم هذه الرقصة التي يعلم في قرارةِ نفسه بأنه لن يستطيع إجادتها في حياته أبداً. فالأملاح المتكدسة في عقبيه تمنعه حتى من الذهاب لقضاء حاجته أحيانًا.
هو فقط يفكر في إثارة إعحابها
فأمورٌ كهذه تسلب لُب الشباب كما يظن. ولأن السعادة البادية على ملامح الراقصين هي أحد الأشياء التي يتمنى بأن يشعر بها يومًا.
ظل ينتظر قدومها بفارغ الصبر.
وكلما سمع دبيب أقدامٍ تقترب من دكانه، نهض من فوره واتجه ناحية معلبات البقولياتِْ يرتبها متصنعًا الانشغال.قبل أن يخيب ظنه بظهور جيلان لشراء الماءِ تارةً أو بطفلٍ متلهفٍ لآيسكريم غوار في تارة أخرى.
وكلما مل من ترقبه واضطراره لتعديل الحمالاتِ الخانقةِ التي تربط جزئه السفلي بالعلوي في كل مرةٍ يقوم فيها. شد من أزر نفسه ومنّى نفسه بقرب قدومها فلا بد وأنها ستحتاج شيئاً في أي وقتٍ من الأوقات .
أشغل موسى نفسه بتقليب محطات الراديو القديم الذي لم تتغير إشارة إذاعة القرآن الكريم 89.9 فيه منذ سنوات. وراح يبحث عن أي محطةٍ تبث أي أغنيةٍ شرقيةٍ في هذا الوقت . ولم يفلح في بحثه بل وأُحبط جدًا مما سمعه .
وفي خضم انشغاله لمح طيفًا أسودًا يدخل الدكان فقدر أنها هي .
نهض متلعثمًا مرتبكاً لمواجهةِ الغزال السارح الذي احتل تفكيره ونزع النوم من عينيه الذابلتين . لكنه لم يبارح دائرة خيبة الأمل حينما تأكد بأن الطيف الأسود لم يكن إلا طيف الحاجةَ آمنة، تطلب منه كيلاً من الأرز ومغلفي صلصة طماطم يسجلهم في الدفترِ إلى حين قدومِ ابنها يحيى من مكة آخر الأسبوع .
غرس المكيال في خُُرْج الأرز متأففًا وملأ كيسًا بلاستيكياً بالمقدار المطلوب . ثم ناولها الكيس مع المغلفينِ لتشكره على صبره وتدعو الله بأن ييسر له أموره بعربيتها المعجونةِ بكلماتٍ سواحيلية . ثم عاد خلف منضدته متكدر المزاج يقلب المحطاتِ من جديد.
أخيراً حدث ما كان يتمناه قبل أذان المغربِ بعشرةِ دقائق .
عندما قرر إغلاق الدكان والتوجه لمنزله للتمدد قليلاً قبل الصلاة. ظهرت دينا وسط المحل فجأة ً وكأن عودها الباسق نبت من بين صدوع البلاطِ دون أن يشعر موسى به.
توجهت ناحية برادة المرطباتِ بينما كان موسى يتفحصها بشكلٍ دقيقٍ يحفظ ملامحها الفتية
” بيضاء كالحليب . لها عينانِ تفوقان بحر جدة اتساعًا.
وعودُ ناضجٌ بخصرٍ دقيقٍ يجبرك على التسبيح. وشفتانِ مكتنزتان مترعتانِ بخمرٍ يسلب فؤادك إلى أبد الآبدين” هكذا قدر موسى وصفها لاحقًا وهو يتذكرها على فراشه .
ظل مختنقاً بالصمتِ للحظات . قبل أن يسألها عن حالها بابتسامةٍ بلهاء لتجيبه على استحياء ” الحمدلله ياعم و أنت كيف حالك ؟”
أجابها بالحمد قبل أن يخنقه الصمت مجدداً . بينما كان عقله العجوز يلح عليه بالحديث معها بشكل مزعج .
إلى أن بادرها سائلاً وهي تنحني لالتقاطِ القشطة من الرف السفلي “ وكيف هي الأوضاع في فلسطين ؟ ”
” كما ترى في الأخبار يا عم” قالت دينا .
استدرك العم قائلاً“أعانكم الله. أعرف ذلك لكني قدرت بأنكِ تعرفين هذه الأخبار بتفاصيل أدق”
” لكني لا أسكن فلسطين ”
“ها! أنا آسف لإزعاجك” قالها متلعثمًا.
خيم الصمت الخانق مجددًا .
دفعت ماقرر عليها . وهمت بالمغادرة قبل أن يناديها العاشق الهرم ” تفضلي يا آنسة.
هذا رقم الدكان إن احتجت لشيء فما عليك سوى. الإتصال وسأرسل أحد شياطين الحي بالمشتريات. لا تتعبي نفسك”
“شياطين؟” سألته ذاهلة
رد موسى بعد غلبتهِ لقهقةٍ داهمته” أحد أطفال الحي الكثر . تعدادهم في الحي أعلى من البالغين والقطط المشردة.
أكاد أجزم بأنهم يفوقون السكان السفليين في هذه المدينة أيضا “
” أعوذ بالله من الشياطين الرجيم” ظلت ترددها بصوتٍ منخفض.
تحرك بخفةٍ ماكرةٍ خلف منضدته ليسحب الكرت الذي أعده مسبقًا لهذا الموقفِ مسجلاً فيه رقم هاتفه مذيلًا بموسى البقال .
ناولها إياه لتشكره على لطفهِ وتخرج من الدكان منهيةً مشهدًا كرره البدين في ذاكرته كثيرًا.
بعد أن عاد من ذهوله المؤقت ضرب على رأسه حينما راجع ما حصل . ولام نفسه كثيرًا على السؤال الغريب الذي ألقى به طمعا في حوار ” ما هكذا تتحدث أيها العجوز الغبي ”
قُدر له لقاؤها مرةً أخرى وهو يهم بإغلاق الدكان قبل الأذان .حينما خرجت من عند جيلانِ تحمل أكياساً أخرى غير التي خرجت بها من عنده.
لمحته فبادرته بإبتسامةِ مجاملة . شعر حينما رآها بأن حظه تبسم له حتى بانت نواجذه للمرةِ الأولى بعد عقودٍ من التجاهل. وكأنه بات يعيش على هامش الحياة.
لا يذكر بأنه أحس بنفورٍ من أحدٍ كما أحس به ناحية جيلان وهو يراقب مشيتها لحظة عبورها للشارع الصغير.
ود لو أنه يستطيع شنقه حتى خروج الروح .
يحاول الحديث ليعتذر له عن سوءته فلا تسعفه أنفاسه المنقطعة . ود لو أنه يستطيع ضربه بعودِ باب الكراج حتى يتخضب ثوبه القصير المهترئ بدمائه .
يغرس العود في عينه اليمنى حتى يخرج من مؤخرةِ رأسه تاركاً عينه الأخرى ليشهد نهايته بنفسه .
” لنا الجنة يا خواجة” قالها جيلان وبصره متسمرٌ تماماً في مؤخرتها .
لم يشعر موسى بنفسه وهو يرد حانقاً ” إحترم الأذان يا أعرج”
ضحك جيلان من النبرة الغاضبةِ ملياً . قبل أن يرد مغالباً ضحكه ” ألا يمكن للأعرجِ تقديرُ الجمال؟
هذه الفتاةَ جميلةٌ بالقدر الذي ينسيني عاهتيِ ويصيرني كاملاً . ثم إن العرج الذي تعايرني به لا يعيقني عن أي شيء وأنت تعلم“
” نعم أعلم”
صمت لثوانٍ محاولاً صد سيل الكلماتِ المحتقنِ في جوفه.
شعر بدمه يفور في رأسه . وراحت عيناه تدمعانِ كعادتهما كلما داهمته ثورةُ غضب .
نطق لسانه المسعور رغماً عن صاحبه ” نعم أعلم . فأنا أشاهد اثني عشر طفلاً فقيراً يحملون ملامحك البشعة.
يتيهون في شوارع الحي كل يوم . وأبوهم مشغولٌ عنهم بملاحقةِ فتياتٍ بأعمار أبنائه المعدمين .
ذكرني يا جيلان بالله عليك كم تبقى من محكوميةِ بكركَ عثمان ؟”
لم يكد موسى ينتهي من جملته حتى وجد نفسه ملتصقاً بكراج دكانه . وجيلان ممسكٌ بتلابيبهِ بوجهٍ أسودٍ غاضبٍ يصرخ فيه “
” لا تذكر أبنائي بهذه الطريقةِ يا خصّي! لا تذكرهم يا أحمق”
وعاجله بلكمةٍ على وجهه فسقط على الأرضِ فاقداً توازنه .
” هذه هديةُ من عثمان ابن الأعرج ، وهذه هديةٌ من اخوته المعدمين”
برك جيلان على كرش صاحبه ففاجئه موسى بصفعةٍ مخاتلة. فدوى طنينٌ لانهائيٌ في أذنه .
راحا يلهثان كعدائين أوليمبيين في نهاية السباق .
كور جيلان قبضته استعداداً للكمه مجدداً قبل أن يسحبه أحد المارةُ من فوقِ صاحبه بعد عناءٍ وهو يحثه على التعقل والهدوءِ الذي لم يعد موجودًا في قاموس الخضرجي بعد اليوم.
لم يشعر جيلان بأنه استرد حقه كاملًا.
أحس بأن إهانة جارهِ لاتزال جاثمةً على صدره . فصاح بأعلى صوته بعد أن أبعده عامر غزال و أحد فتية الحي عن خصمه .
” هذا البدين !
هذا البدين العنين . يعيرني بعرجي وأطفالي من أجل امرأة ! تخيلوا بالله عليكم من أجل امرأة! والله لأستردن حقي منك ولو بعد حينٍ أيها العجوز الخرف. أيها التاجر الفاشل . المهرج المنحرف ، الخو.. ”
وضع عامر يده على فم الأعرج الثائر خوفًا من تفاقمِ الأمر فوجد في يده متنفسًا جديدًا وعض يده ككلبٍ جائع.
قامَ موسى من مكانه بمعاونةِ أحدهم بوجهٍ جامدٍ لايحس بآثار القبضةِ التي فجرت شفته العليا .
وكأنه يريد استيعابَ مآ آل إليه حديثه .
لم يعي بأن نيران المضغةِ التي تحتل صدره قد أشعلت جذوة الخصومةِ بينه وبين صاحبه بعد صفاءِ يزيد عن خمسةٍ وعشرين عاماً .
لم يكن يرغب بزيادة الفجوةِ بينهما فلزم الصمت بينما لازال صاحبه يهذي.
” موسى وجيلان تعاركا؟ يا سبحان الله إقتربت الساعة وانشق القمر ”
قالها رجلٌ عجوزٌ من وسط المتجمهرين بعد علمه بما حصل.