موسى أحمد بقال حزين .
لا يشعر بالفرح إلا لمماً ولا يحس بالسعادة إلا على هيئة أقساط شهرية تدفع له أحياناً وتتعذر عنه في أحايين كثيرة .
لم يذق طعم الفرح كما يقول منذ أن أخذت الحياة بالتغير في الحارة .
منذ توسع تجارة منافسه الوحيد إقبال أكبر . ((الإبليس البنقالي)) كما يحب تسميته تخفيفاً من ألمٍ يحتل صدره كلما لمح الممقوتَ وهو يوجه العمال المنشغلين بثقل لوحة النيون الجديدة التي تحتل مساحة ثلاثة محلاتٍ متجاورة .
بينما اكتفى له القدر بدكانٍ أصغر من حُقِ سردين .
يحمد الله على مضضٍ ويبرر فوارق النشاط بالتلاعب الواضح والتآمر الفاضح بينه وبين المناديب الذين يشاركونه الجنسية ذاتها. ذات المناخ وذات القذارة .
أولهم شفيق عليم الرحمن .
ذاك الهندي النحيل الغارق في السمرة . صغير الجسد بأذنين كبيرتين تأطر صيوانهما بزغبٍ كثيفٍ ينافس خصلات غرته المدهونةِ بزيت النارجيل الذي يتشبث بأنفه حارماً إياه من تمييز الروائح لمدة غير معلومةٍ كلما زاره في الدكان.
يتعمد شفيق أن تكون بقالة الإبليسِ محطته الأولى حيث يفرغ الجيد من البضاعة عنده ، معظم البضاعةِ عنده . قبل أن يعرج على دكان العم موسى ببعضٍ مما تبقى أو بعبارته الشهيرة “بكرة إن شالله مدير ”
يقولها كاشفاً عن أضراسه العريضة النافرة المصبوغة من فرط ادمان المضغة الحمراء مثيراً غضب العم موسى قبل أن تهدأ ثورته ويعود حالماً ببضاعة الغد التي لا تأتي معظم الأحيان.
وكلما أصابه اليأس مال على جاره جيلان الخضرجي يشكو سوء الحال ودناءة المنافس الذي يضيق خناقه على رزقه يوماً بعد يومٍ .
فلا يجد لشكواه إجابةً سوى قهقهةٍ تأز طبلة أذنه أزاً . متبوعةً بعباراتٍ تحثه على زيادةِ همته بدلاً من التقوقع في دكانه والاكتفاء بضرب الكف بالكف ومراقبةِ تطورِ خصمه دون أي ردةِ فعل.
يغضب من صاحبه ويقوم من مقعده مخاصماً إياه قاطعاً الأيمان بأن لا يعود لمجالسته.
ولأنه طيب القلب
لا تستمر خصومته لجاره سليط اللسان سوى سويعاتٍ تعود من بعدها المياه إلى مجاريها حينما يباغته جيلان في دكانه متعللاً بحاجته للمرطبات .
يتصنع وقتها العم موسى الإنشغال بدفاتره كيما يخاطبه . يحدث جيلان نفسه بصوتٍ مسموعٍ مختبئاً خلف ضباب باب الثلاجة الزجاجي قائلاً:
” الله ، ما أبرد هذا المشروب، أكاد أجزم أني لن أجد أبرد منه في الحي كله”
يجيبه البقال بنبرة جامدةٍ تخفي غبطته
” المشروبات واحدة في كل البقالات، لم أصنع شيئاً بنفسي”
ليبادره الخضرجي بنبرةٍ متوددة “ لا اختلاف على وحدة المصنع .
لكن الاختلاف الواضح بالنسبة لي هو هذا البراد السحري الذي تحتفظ به في دكانك الصغير .
كأنه قطعة من القطب الشمالي ، من أين أتيت به بالله عليك؟ أما تركت عادتك بأن تكون ذا حظوة عند الموردين ؟ … أما تركت؟… ها؟“
“كل البرادات موردة من المصنع ذاته.
ولو كنت تحمل شيئاً من المنطق في رأسك الثقيلة هذه لأدركت أن الحظوة لن تترك بقالتي منقوصة من أي شيء . هه حظوة! قل غيرها”
يعود بعدها لتقليب الأوراق المصفرّة دون فك الطلاسم التي تتوسطها متصنعاً اللامبالاة.
يرمي جيلان بسلاحه الأخير أكيد المفعول وهو يحاول فك علبة الشاني بأصابعه عديمةِ الاظافر.
” لكن هذه الرأس الثقيلة تخبرني بأن في هذا المكان روحاً حميميةً مختلفة .. إحساسُ قوي يلف زواره ويشعرهم بالألفة والارتياح،
أقسم بالله إن الدكان ليتطبع بطباع صاحبه، هذه حقيقة علمية .. تنكر؟“
يقهقه البقالُ المكتنز
يقهقه جسده معه بشكلٍ عشوائي . ينظر إلى صاحبه الغارق في الضحك سعيداً بإنقشاع الغيمة وينطق في حبور
” اه يا جيلان لو أنك مارست بيع الكلام بدلاً من بيع خضرواتك الهزيلةِ لتضاعفت ثروتك بشكلٍ لا يصدق “
” ولك من خضرواتي الهزيلةِ هذه حزمة نعناعٍ مدينيٍ يعدل مزاجك المتقلب”
” يا للبخيل! بدل أن تغدقني بصناديق المانجو ، بكروم العنب ، ترضيني بحزمة نعناع؟ .. عجل بالنعناع رضي الله عليك”
هكذا كان موسى طيباً مع الجميع رغم اكتئابه يسْعد بزبائنه كما يسعدون به.
يبادرهم بالسؤال عن أحوالهم ، يشاركهم أفراحهم ولا يبخل بكتفه اللاحمِ إن احتاج أحدهم أن يبكي عليه .
كان قلبه يسعهم جميعاً ، جيلان مزروع ، عبدالرزاق الأصنج ، أم حسان ، شرف سعد، عامر غزال ، دينا عباس.
وآهٍ من بنت عباس .
آهٍ من ذاك الحضور المؤقت الذي غمر قلبه بعد أن قدمت من عمّان تزور أبويها ذات صيف.
وطأت أرضية الدكان عدة دقائق تشتري الحلوى فخرجت بها وبقلبه العجوز .
ولم يعد البقال المفتون بفتاةٍ بنصف عمره يعي تصرفاته .
كثر جلوسه على ناصية الدكانِ طمعاً بمرورها .
بل وصار يحدث نفسه كثيراً حتى ظن جيلان بأن نوباتِ الإكتئاب التي تزاور جاره بصورةٍ غير منتظمةٍ أوصلته لأولى درجات الجنون.
” أملك كرشاً عظيماً و ساقين نحيلتين تنوءان بحمل جسدي المستفيض في الاتساع.
تتوسطهما صابونة ركبةٍ تشابه ليمونةً ناضجةً في تكوينها إن رآها أحدٌ أدرك إعجاز الله في خلقه.
لا أبدل ثيابي بنية القماش .. رملية القماشِ ولا الحذاء سميك النعل حذائي الذي اعتمد عليه بالتستر على قصر قامتي.
خداي زاخران بحقولِ بثورٍ وثقوبَ تقوم مقام اللحية. فكيف لفتاةِ من أهل الجنة أن تنظر لي وأنا في درك الحياةِ الأسفل؟ .. يارب”
هكذا كان يحدث موسى نفسه إلى أن قرر النزول لدكانه بشكلٍ مغايرٍ إبتداءاً من الغد.
وقد كان
لن ينسى هأهأة جيلان حينما رأى تغيره الكلي إلى أن يموت ولن تفارق نظرات مرتادي بقالته الفاحصةِ أبداً .
سرح شعره للخلفِِ فتبدت خطوط جبهته.
أبدل الثوب البني بقميصٍ أزرقٍ فاقعٍ دون عقد أزراره العلويةِ كاشفاً صدره كمراهقٍ أخرق .
زاوج القميص ببنطالٍ أبيضٍ يعتليه حزامٌ جلديٌ سميكٌ يبرز كرشه النافر.
ولما لم يعد حذائه سميك النعل مناسباً لمظهره الجديد ، استعاض عنه بحذاءٍ إيطاليٍ أسودٍ لامع . وطوق معصمه بساعةٍ فضيةٍ فخيمة.
“أهكذا ستنافس إقبال يا موسى؟”
يرد على تهكم جيلان بالصمت والتلويح بيده بضجر فما يشغله شيءٌ آخر .
قضيته أكبر من أن يعيها خضرجي بسيط لا يجيد ضبط حساباته. هكذا كان يشد من أزر نفسه.
لم يفكر موسى في آثار تحوله كثيرًا.
لم يتفطن إلى أن قذف حصىً على مياهٍ راكدةٍ يوقظ الكائناتِ الراقدةِ تحت سطحها من سباتها القسري ويضعه عاريًا في مواجهةِ غضبها.
موسى يسلخ جلده.