تنويه: لا فائدة ترجى من هذا النص.
نبت من الأرض وجهٌ أسمرٌ شبه متحلل تبرز منه بقايا أسنانٍ إصفر لونها .
مد يده ليسحب الجثة بغية دفنها في مكان يليق بالأموات ، انتزعها بكل قوته من أكثر شيء بارزٍ فيها، سنان منتصبانِ لأعلى كأكفِ حاجٍ متبتل.
انخلع أحدهما على يديه كطبيبٍ ماهرٍوغاص الوجه مجدداً إلى الداخل ، غرس يدهُ في التربة محاولاً إنقاذ ما يمكن إنقاذه لكن العذاب مصيرٌ قد تقرر وأنقضى .
راح يحدق في صفحة السن المصفرة ، شعر بشيءٍ يختفي خلف تلك الصفرة الداكنة.
كشطها من منتصف السنِ فسمع صراخ فزع.
دقق بالنظر فرأى فتاةً عاريةً تستحم. ركضت من فورها دون وعيٍ وأغلقت الستائر بقوةٍ على إصبعه فأحس بالألمِ يفور في رأسه، صبغ دمه القاني إصبعه فراح يمصه في وجلٍ لتخفيفِ جريانه.
سحب إبهامه من بين شفتيه الجافتين بغية معرفةِ نتيجةِ علاجه البدائي ،ملأ الدم ثلاثة أرباعِ الحيز الواقعِ بين جلده و إظفاره بينما ترك الربع الأخير سليماً .
ضحك لما شعر بأن إصبعه يماثل علم البحرينِ قبل أن يرتجف قلبه حينما فكر في إمكانيةِ أن يصير الدم داكناً أكثر فيضطر إلى بتر إصبعه،
قرر التغلب على ألمه وخلع ظفره، فالتضحية بالقليل طوعاً أهون من التضحيةِ بالكثيرِ كرهاً كما قرأ في كتيب الإرشادات ، فصل التعليماتِ إن غرقت السفينة.
أبحرت به السفينةُ دون أن يودع أحداً فأصابه الكدر.
قرر التخفيف عن نفسه وكتابة رسالة وداع، رسم على جدار السفينةِ الأبيضِ شكلاً مستطيلاً بمشرطٍ كان في جيبه، ثم تذكر بعدها سوء أدبه. نظر إلى مقدمةِ السفينةِ نظرة بريئةً واستأذنها إكمال مهمته بتوددٍ فأومضت المشاعل المضيئةُ على ظهرها إيذانًا بالموافقة.
شكرها وطرق بظاهر إصبعه مرتين وسط الشكل الذي رسمه فاستحال ورقةً بيضاء، أخذها وتمدد على بطنه وقرب المشرط من مقدمةِ لسانه وأحدث شرخاً صغيراً ليمده بالدم المتدفق بإنتظامٍ وخط على الورق الرسالة التالية:
إلى ماما العزيزة
أكتب لكِ من ظهر السفينة ( الأمل المفقود – 89) هذه الرسالة لأعلمكِ بأنني مسافرٌ إلى وجهةٍ لا أعلمها ولكنني متشوقٌ جداً لما سألاقيه .
ماما، لا أدري إن كنت ستعدين هذه الرسالةَ إعتذاراً مقبولاً لمغادرتي دون إخطاركِ بالأمر. ولا أدري إن كنتِ ستصدقينني إن قلت لكِ بأنني أنا نفسي لم أكن أعلمُ بهذا الرحيل المفاجئ إلا في هذه اللحظة.
أود أن أعتذر لك أيضاً عن أمرٍ آخر .
انتعلت في رحلتي هذه قبقابك الخشبي الذي تحبين. وأنا أعتذر منكِ الآن لأنني أعرف تماماً بأن الجنون قد تسرب إلى عقلكِ وأنت تبحثين عنه في كل مكان ، بل ولا أستبعد بأنك رفعت زرع الحديقةِ للبحث تحته.
ولكني ألبسه الآن يا أمي، وأعدك بأني سأحافظ عليه أكثر من حياتي . وعندما يقترب هذا القبقاب من التحلل سأصنع منه سفينةً ضخمةً واستأجر قبطاناً خبيراً عالماً بأهوالِ البحر ليحضركِ إلي ، واصطحبي معكِ في هذه الرحلةِ من تشائين .
ولكني أرجوكي رجاءاً خاصاً بأن لا تصحبي معكِ جارتنا عائشة. فلهذه العجوزِ عينٌ حارقةٌ تسقط الطير من السماء، ألم تتسائلي يوماً لماذا لاتمر أسراب الطيور المهاجرةُ فوق حينا؟
أكاد أجزم يا أمي بأن عينها ستحرق السفينة وقلبي معها .
وفي الختام وقبل أن أودعك وداعاً أخيراً، أرجو منك الإهتمام باليرقةِ التي أربيها في مرطبان المايونيز الفارغ تحت دولاب الأحذية فبإكتمال نموها ستصير أسطورة العنقاء واقعاً حقيقياً .
لا تفزعي من ضخامةِ حجمها فقد همست في أذنها عنك كثيراً ، وستطير بكِ إلى جواري بسرعة الضوء. واحذري تعريضها للهواءِ فهي تحب أن تعيش في الأماكن الرطبة.
أحبك
المرسل:
ابنك العاق.
طوى الرسالة جيداً بعد أن فرغ من كتابتها ورمى بها نحو السماء وراح يراقب صعودها البطيء وابتسامةُ الراحةِ ترتسم على شفتيه .
تحرك إلى مقدمة السفينة ليستمتع بمنظر بحر القيء الذي يبحرون عليه قبل أن يلفت انتباهه رجل بدينٌ يحمل سيفاً كبيراً عريض النصل يحاول قص بعض أوراقِ الطحالب الطافيةِ على السطح .
نجح في مسعاهُ بعد فترةٍ من الزمن.
فرد أوراق الطحالب الخضراء ، قرب وجهه من الورقة فاتحاً فمه وراح يضرب مؤخرة رأسه بغمد السيفِ بقوة حتى تساقط فتاتٌ أسودٌ وسط الورقة، لفها بعنايةٍ واستند بظهره على كبينة القبطان ثم مد يده داخل جوربه وأخرج حجرين ، وراح يصكهما ببعضهما حتى تكونت شعلةٌ متوهجةٌ من بينهما أشعل بها اللفافة وألقى برأسه على ما يسند ظهره .
إقترب منه بحذرٍ شديد، ولما التقت أعينهما حياه الضخم بابتسامةٍ غير مباليةٍ ومد له اللفافة فأخذها وجلس بجانبه ليغيبا في الفضاء المعتم.